توقيت القاهرة المحلي 11:26:35 آخر تحديث
  مصر اليوم -

خمسة فناجين لاتيه

  مصر اليوم -

خمسة فناجين لاتيه

بقلم-د. نيفين مسعد

الغربة شعور غير مريح بشكل عام لكن في هذه المناسبات بالذات تصير وطأة الغربة أشد. هي واحدة من كثيرين طردتهم الحرب من بلدهم ونثرتهم في كل صوب كما ينثرون الملح في المناسبات السعيدة ليبعد عن الأحبة الشر وناسه، لكن في حالة مريم هناك فارقان جوهريان: أن مناسبتها ليست سعيدة وأن الشر لم يبتعد. قبل نحو ست سنوات توزع أفراد أسرة مريم على دولتين عربيتين أما هي فوفدت إلى هنا، كانت تملك من التعليم واللغة وقوة الشخصية ما فتح لها أبوابا لا تُفتَح لسواها بسهولة، لكنها مثل أهلها ظلت تنتمي إلى هناك هذا ال "هناك" الذي لم تطله أبدا منذ غادرته ولا تعرف إن كانت ستبلغه يوما أم لا . تُعنّف نفسها إذ تصف الغربة بأنها هنا والوطن الأم بأنه هناك لكنه الواقع. تغمض عينيها وترى نفسها مع أبويها وأيضا مع أخويها وليد ونچلا في ضيعتهم، يتحلق بشر كثيرون من حولهم.. تتقاذفها الأحضان وتُدوي خفقاتها المتسارعة في صدورهم، تتحول بقدرة قادر إلى فراشة تطير من بيت لآخر من بيوت هؤلاء البشر ومن مائدة لثانية من موائدهم، تطير وتطير ولا تستقر إلا بعد أن تهوي على مقعد الطائرة وصوت المضيفة الرقيق/البغيض يأتيها قائلا: الرجاء من السادة الركاب التأكد من ربط حزام الطائرة. تنظر من الزجاج السميك فتتخيل أن طائرتين أخريين يحدانها من يمين وشمال وكأن هذا السرب الجوي في طريقه لينثر ركابه أو ملحه في مقاصد مختلفة. تلوح في طفولة لنچلا ووليد فلا يريانها لكن إحساسا بالراحة يغشاها لأن فضاء واحدا يجمعها بالكل ثم يعود الفضاء ويفرق الكل لتصحو مريم من غفوتها أو تنتبه من شرودها. تتوقف حينا ثم ما تلبث أن تعيد الكرّة كلما استبد بها الحنين .. وكم هو يستبد .
***
في المدينة الأوروبية التي اغتربت فيها مريم توفرت لها كل الظروف المثالية التي تساعدها على أن تعيش حياة الآلة: درجة الحرارة المناسبة والصيانة الدورية والتشغيل السليم. تستطيع أن تحذف الشروط اللازمة لعمل الآلة بكل طاقتها وتضع مكانها الظروف التي تعيش فيها مريم كإنسانة وستجد أن ليس ثمة فارقا يُذكَر، فالضمان الاجتماعي يرادف الصيانة الدورية للماكينات والتدفئة الجيدة لمكتبها ترادف درجة الحرارة المناسبة للإنتاج واحترام ساعات الراحة وأيام الأجازات يرادف التشغيل السليم.. لطيفة لعبة التباديل والتوافيق هذه .. قالت "الآلة" مريم لنفسها. 
***
أول ما شعرت مريم عنه بغربة في هذه المدينة الأوروبية كان طقسها الذي تتلاقي فيه فصول السنة الأربعة علي مدار اليوم، صحيح أنها واظبت على ارتداء الثياب المناسبة لكل فصل كما يفعل الجميع لكنها مثلهم اضطرت دائما أن تجهز حقيبتها الضخمة بمستلزمات الفصول الثلاثة الأخرى، وهكذا اعتادت أن تدس في حقيبتها الكبيرة سترة واقية من المطر ومروحة مصنوعة من الورق المقوي ونظارة شمس سوداء ودهانات للوجه ضد الحرارة ودهانات أخرى ضد الجفاف. لا يشبه تعاقب فصول السنة على مدار ساعات اليوم الواحد في شيء البيئة التي أتت منها مريم، ففي ضيعتها الصغيرة الصيف صيف والشتاء شتاء، صحيح أن الطبيعة تخرج أحيانا على نواميسها وتتمرد لتمطر في الصيف أو تزمجر في الربيع لكن هذا والحمد لله لا يحدث كثيرا. مثل هذا الاختلاف بين جو هنا وجو هناك صنع منذ البداية حجابا حاجزا أول بينها وبين مهجرها الأوروبي، أما الحجاب الحاجز الثاني والأهم فصنعه الفارق بين علاقاتها الإنسانية خلف باب المؤسسة التي تعمل فيها كمترجمة وبين علاقاتها الإنسانية خارج هذا الباب. هل يحتاج الأمر لبعض التوضيح؟ نعم يحتاج . في أثناء العمل يكون تفاعل مريم مع معظم زملائها على أعلى مستوى ممكن، فهي تتحدث أربع لغات بطلاقة وكثيرا ما يحتاج إليها العمل للتفاهم مع المترددين على المؤسسة ولولاها لتعطلت لغة الكلام. لكن ما أن ينتهي العمل حتى يمضي كلُ في طريق، فلا خروجات تجمعها مع زملائها، ولا دردشة عبر وسائل التواصل ولا تزاور أو اشتراك في مناسبات اجتماعية إلا فيما ندر، يُخَيَل إليها أنه بحلول الساعة الخامسة عصرا يفصل أحدهم التيار الكهربائي ليس فقط عن أجهزة الكومبيوتر لكن أيضا عن علاقات العاملين. هذا لا وجود له أبدا في ضيعتها فالتداخل بين علاقات العمل والقرابة كبير، وباب العمل دوار يُبَدِّل الداخلون منه ثيابهم أما علاقاتهم فلا، هناك يعمل التيار الكهربائي بكفاءة كبيرة على مدار اليوم كله حتى توشك الأجهزة العصبية أن تحترق، آه كم تشتاق مريم . 
***
في المناسبات والأعياد تزيد وطأة الغربة على مريم، يمضي العمل في مؤسستها كالمعتاد وهي أيضا من المفترض أن تعمل، لكن يمكن لها أن تطلب أجازة ليوم أو بضع يوم لتحتفل بالعيد، جيد ألا تذهب للعمل في يوم العيد لكن إلى أين تراها تذهب؟ ليس سهلا أن تتجمع الأسرة في مكان واحد فالآن هم يعملون وليس معروفا إن كان العمل يدوم . في بعض الأعياد تقرر مريم أن تكافئ نفسها بجلسة على هذه الكافيتريا الشهيرة التي تطل على النهر، تختار مائدة تتسع لخمسة أشخاص: هي وأبواها ووليد ونچلا، ترفض بإصرار أن يسحب النادل أيا من المقاعد الأربعة التي لا يجلس عليها أحد مهما ازدحمت الكاڤيتريا، تطلب خمسة فناجين من شراب اللاتيه الذي تحبه أسرتها، ترشف الشراب الساخن بتلذذ وتتأمل حلقات الدخان الأبيض وتتقمص مشاعر الفرح حتي يمر صباح العيد

نقلا عن الشروق

المقال يعبّر عن رأي الكاتب وليس بالضرورة رأي الموقع

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

خمسة فناجين لاتيه خمسة فناجين لاتيه



GMT 20:22 2023 الخميس ,19 تشرين الأول / أكتوبر

مليونية ضد التهجير

GMT 03:11 2023 الأربعاء ,21 حزيران / يونيو

الخالدون أم العظماء

GMT 04:43 2023 الإثنين ,19 حزيران / يونيو

كل سنة وأنت طيب يا بابا

GMT 04:15 2023 الأحد ,18 حزيران / يونيو

الزعامة والعقاب... في وستمنستر

GMT 03:32 2023 الأحد ,18 حزيران / يونيو

حدوتة مصرية فى «جدة»

اللون الأسود سيطر على إطلالات ياسمين صبري في عام 2024

القاهرة ـ مصر اليوم

GMT 09:42 2025 السبت ,04 كانون الثاني / يناير

أفكار هدايا لتقديمها لعشاق الموضة
  مصر اليوم - أفكار هدايا لتقديمها لعشاق الموضة

GMT 10:08 2025 السبت ,04 كانون الثاني / يناير

وجهات سياحية مناسبة للعائلات في بداية العام الجديد
  مصر اليوم - وجهات سياحية مناسبة للعائلات في بداية العام الجديد

GMT 09:50 2025 السبت ,04 كانون الثاني / يناير

نصائح بسيطة لإختيار إضاءة غرف المنزل
  مصر اليوم - نصائح بسيطة لإختيار إضاءة غرف المنزل

GMT 00:01 2025 الأحد ,05 كانون الثاني / يناير

"لطفي لبيب يودع الساحة الفنية ويعلن اعتزاله نهائيًا"
  مصر اليوم - لطفي لبيب يودع الساحة الفنية ويعلن اعتزاله نهائيًا

GMT 14:55 2021 الخميس ,04 شباط / فبراير

التفرد والعناد يؤديان حتماً إلى عواقب وخيمة

GMT 07:29 2020 الأربعاء ,17 حزيران / يونيو

ارمينيا بيليفيلد يصعد إلى الدوري الألماني

GMT 13:03 2017 الخميس ,07 كانون الأول / ديسمبر

"فولكس فاغن" تستعرض تفاصيل سيارتها الجديدة "بولو 6 "

GMT 18:07 2017 الأربعاء ,08 تشرين الثاني / نوفمبر

المنتخب الإيطالي يتأهب لاستغلال الفرصة الأخيرة

GMT 07:24 2024 الخميس ,19 أيلول / سبتمبر

دراسة توضح علاقة القهوة بأمراض القلب

GMT 22:13 2024 الجمعة ,07 حزيران / يونيو

بسبب خلل كيا تستدعي أكثر من 462 ألف سيارة

GMT 00:02 2023 الجمعة ,20 كانون الثاني / يناير

مبيعات فولكس فاغن تتجاوز نصف مليون سيارة في 2022

GMT 08:36 2021 الخميس ,07 تشرين الأول / أكتوبر

أيتن عامر تحذر من المسلسل الكوري «squid games»

GMT 20:44 2021 الأربعاء ,15 أيلول / سبتمبر

شيرين رضا تتعرض للخيانة الزوجية من صديقتها المقربة
 
Egypt-today

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

egypttoday egypttoday egypttoday egypttoday
Egypttoday Egypttoday Egypttoday
Egypttoday
بناية النخيل - رأس النبع _ خلف السفارة الفرنسية _بيروت - لبنان
Egypt, Lebanan, Lebanon