توقيت القاهرة المحلي 05:32:36 آخر تحديث
  مصر اليوم -

زهرة الصبّار

  مصر اليوم -

زهرة الصبّار

بقلم : نيفين مسعد

 غريب حال زهرة الصبّار فمع أنها تنبت في أكثر البيئات قساوة إلا أنها مثّلت دائما مصدرا لإلهام المبدعين، والقسوة والفن لا يجتمعان. ولعل جاذبية هذه الزهرة تكمن في قدرتها الفريدة على المقاومة، وربما حتى أُفَضل استخدام تعبير المعافرة فغبار الصحراء الذي يُعفّر أوراق الصبّار ويطمس خضارها لا يزيدها إلا صلابة، ولذلك فما من مبدع شاء أن يعبر عن عزيمة أحد أبطاله إلا وشبهه بالصبّار. لم تتحد هذه الزهرة فقط جفاف بيئتها فأينعت وأورقت وعاشت، لكنها تمردت حتى على بيئة النشأة الأولى فإذا هي تزحف على بيوتنا وشرفاتنا ومكاتبنا، وإذا بالبنفسجي والأحمر والأصفر يخالطون الأخضر المعتاد ويُقَصّرون المسافة بين الصبّار وسائر الورود والأزهار.
***

في مسرحية زهرة الصبّار التي عُرِضت عام ١٩٦٧ قامت سناء جميل بدور الممرضة چيهان التي أحبت سليمان طبيب الأسنان الذي تعمل لديه وجسّد شخصيته عبد الرحمن أبو زهرة. أحبت چيهان طبيبها حد التفاني والذوبان، اهتمت بتفاصيله من ألفها إلى يائها، أما هو فتعامل معها باستعلاء بل ولم يتورع عن استغلالها للارتباط بمن يحب. وكعادة زهرة الصبّار قابلت چيهان خشونة حبيبها بمزيد من التضحية والعطاء.
***

مثلُ چيهان في مسرحية زهرة الصبّار كمثل عايدة في فيلم زهرة الصبّار الذي عُرِض مؤخرا في القاهرة وأخرجته الفنانة التشكيلية هالة القوصي. بطلة الفيلم عايدة نبتت في بيئة جافة بالمعنى الدقيق للكلمة، هجرتها أمها وهي طفلة فتربت في كنف الأب وزوجته وليس كحضن الأم حضن، أُجبِرَت على دراسة الطب ولم تطق عليها صبرا فاحترفت التمثيل وحوربت بسببه مرتين: مرة لأنها مارقة وأخرى لأنها لا تُغري، أحبت كاتبا كبيرا ورفضت سواه لكن من أحبته أرادها خليلة لا أكثر. من وسط هذه الجفاف تألقت إنسانية عايدة أو الممثلة سلمى سامى، فهي تحمل مسؤولية جارتها المسنة المصابة في قدمها وتنتقل بها من بيت لبيت، تأخذ معها في حلّها وترحالها زهرة الصبّار التي زرعتها فوق سطح بيتها القديم وتعيد غرسها في كل مكان، وكأن هذه الزهرة هي مرآتها التي تنظر فيها فترى نفسها. لكن حياة عايدة ليست جافة فقط على المستوى الشخصي، فالجفاف هو صفة القاهرة التي تدور بين شوارعها أحداث الفيلم، وهذه التوأمة بين جفاف البيئة المحيطة بعايدة وجفاف بيئة العاصمة تُصوِّرها مشاهد كثيرة، من أول تقطُع العلاقات الاجتماعية بين الأخت وأختها والأم وابنتها والحبيب وحبيبته والجيران وبعضهم، مرورا بتلوث النيل وتكرار لقطات الصحراء وحلم عايدة المجهض في فلاحة الأرض، وانتهاء بأغنية الختام المباشرة في معناها عن قسوة المدينة. لا ليس هذا فقط فالشعور بالتهديد أيضا يزيد في معاناة المصريين، وهنا يركز الفيلم على الفترة التي اتسع فيها النشاط الإرهابي وانتشرت مراكز التفتيش على مفارق الطرقات، ووسط هذا الواقع الصعب تصطدم عايدة بدراجة يقودها أحد الشباب فلا يعتذر بل يكيل لها السباب، فلا أحد يهتم بعايدة عاشت أو ماتت.
***

هذه القاهرة الجافة هي القاهرة الحالية، أما قاهرة زمان التي تمثلها الجارة سميحة أو منحة البطراوي فكان لها شأن آخر، فهذه السيدة سليلة الأسرة الأرستقراطية والتي تتقن الفرنسية آل بها الحال إلى أن تعيش عالة على الآخرين، تتعثر في سداد أجرة غرفتها المتواضعة فوق السطح ثم تُطرَد منها بعد أن تنسى غلق محبس المياه. تُجبر على تناول الفول الذي لا تحبه وكانت تفضل الكرواسون أو الباتيه ، تُتَهم في شرفها من الجيران مع شاب في عمر أحفادها، ومع ذلك فإنها لا تهجر السخرية أبدا، وبمزيج من الحدة وخفة الظل تنتقد الجميع دون استثناء، تدخن حين تتوفر لها سيجارة مجانية وتشرب كأسا من النبيذ يدعوها إليه صديقها مراد حلمي، تغني وتضحك وتشتاق للطبخ وتشارك فعلا في طبخ الملوخية. هكذا نستطيع أن نعتبر سميحة زهرة صَبَّار أخرى لأنها تتحدى ظروفها الصعبة وتتاقفز على عكازيها من بيت مضيف إلى بيت مضيف آخر وتتأقلم .
***

يحفل فيلم زهرة الصبّار بالعديد من الإسقاطات الاجتماعية والسياسية على هذا النحو، ثم أنه يتبع تكنيكا فنيا يتجسد بمقتضاه كل خط درامي في القصة على هيئة حلم . هذه العلاقة بين الواقع والخيال التقطها المشاهد أحيانا لكنه عجز عن ذلك في أحيان أخرى، وكمثال بدت العلاقة مفهومة بين الحلم الذي ينزف فيه الشاب ياسين جار عايدة وبين تعرضه لاحقا إلى الضرب المبرح على يد رجال الشرطة، وكانت العلاقة أيضا مفهومة بين الحلم الذي تبدو فيه مجموعة من الرؤوس محبوسة داخل أقفاص وبين العقول التي ما زالت ترى فن عايدة ضد التقاليد، كذلك بدا الحلم الذي تتزاحم فيه أجساد أبطال الفيلم تعبيرا دقيقا عن دوامة الصراعات التي تلف فيها عايدة دون توقف. لكن على الجانب الآخر بدا الحلم الذي يسخر فيه بعض الأبطال من حبيب عايدة غير مفهوم فعمليا قضى أحمد وطره من عايدة وتخلى عنها، فهل كان الحلم يريد السخرية من هذا الأسلوب اللاأخلاقي لأحمد؟ وهل في بيئة صراعية جافة كتلك البيئة التي صورها الفيلم نتوقع أن تنمو أزهار صَبَّار كثيرة كزهرة عايدة ؟ لا أدري. لم أفهم أيضا إلى ماذا يرمز الحلم الذي يسبح فيه أحمد وعايدة في النيل ويتركان من خلفهما جارها ياسين مع أن الواقع هو أن أحمد سبح في نهر الحياة وحده، أخذ ورقه وأقلامه وترك الجميع يغرقون. فهل المقصود أن هذا حلم عايدة المُجهَض وأمنيتها التي لم تتحقق؟ لا أدري. في بعض الأحيان بلغ الفيلم حدا من التجريد كان يستعصي على المشاهد حتى وإن احتفظ بكل حواسه متنبهة من بداية العرض إلى آخره.
***

تبقى كلمة في حق الممثلين فلقد كانت منحة البطراوي التي كرمها مهرجان دبي أكثر من رائعة، وبالنسبة لغير متابِعَة بدقة مثلي لمسار الحركة الفنية فإن منحة مثلت لي اكتشافا، كذلك هي سلمى سامى أو عايدة هذه الممثلة مصرية الملامح جدا والتي تقمصت دورها جدا حتى أنني أَعجَب كيف سيمكن لها أن تتقمص سواه. أما هالة القوصي صاحبة الدور الأكبر في الفيلم قصة وإنتاجا وإخراجا وملابس فلها كل التقدير .
نقلاً عن الشروق القاهرية

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

زهرة الصبّار زهرة الصبّار



GMT 10:17 2024 الإثنين ,18 تشرين الثاني / نوفمبر

ممدوح عباس!

GMT 10:15 2024 الإثنين ,18 تشرين الثاني / نوفمبر

القديم والجديد؟!

GMT 08:33 2024 السبت ,02 تشرين الثاني / نوفمبر

فرنسا تتصالح مع نفسها في المغرب

GMT 03:37 2024 الأحد ,13 تشرين الأول / أكتوبر

حزب المحافظين البريطاني: «لليمين دُرْ»!

GMT 23:09 2024 الأحد ,06 تشرين الأول / أكتوبر

هل يمكن خلق الدولة في لبنان؟

اللون الأسود سيطر على إطلالات ياسمين صبري في عام 2024

القاهرة ـ مصر اليوم

GMT 09:59 2025 الإثنين ,06 كانون الثاني / يناير

النظام الغذائي الغني بالفواكه والخضراوات يحدّ من الاكتئاب
  مصر اليوم - النظام الغذائي الغني بالفواكه والخضراوات يحدّ من الاكتئاب

GMT 09:52 2025 الإثنين ,06 كانون الثاني / يناير

ميتا تطلق أدوات ذكاء اصطناعي مبتكرة على فيسبوك وإنستغرام
  مصر اليوم - ميتا تطلق أدوات ذكاء اصطناعي مبتكرة على فيسبوك وإنستغرام

GMT 10:25 2021 الأربعاء ,05 أيار / مايو

فساتين أنيقة بتصاميم مختلفة لربيع وصيف 2021

GMT 17:19 2021 الأربعاء ,14 إبريل / نيسان

طقس الأربعاء حار نهارًا ولطيف ليلًا في أسوان

GMT 04:30 2021 الثلاثاء ,30 آذار/ مارس

أفضل وجهات سفر لعشاق المغامرات

GMT 11:54 2021 الأحد ,07 آذار/ مارس

طريقة عمل مكرونة بصدور الدجاج

GMT 10:40 2021 الجمعة ,12 شباط / فبراير

محمد شريف يحتفل ببرونزية كأس العالم للأندية

GMT 01:06 2021 الأربعاء ,27 كانون الثاني / يناير

تلميذات يتخلصن من زميلتهن بالسم بسبب تفوقها الدراسي في مصر

GMT 21:22 2021 السبت ,16 كانون الثاني / يناير

مرور 17 عام على انضمام أبو تريكة للقلعة الحمراء

GMT 09:42 2020 الثلاثاء ,01 كانون الأول / ديسمبر

كرات اللحم المشوية

GMT 06:57 2020 الثلاثاء ,03 تشرين الثاني / نوفمبر

جماهير أرسنال تختار محمد النني ثاني أفضل لاعب ضد مان يونايتد

GMT 18:47 2020 الأحد ,01 تشرين الثاني / نوفمبر

تغيير اسم نادي مصر إلى "زد إف سي" بعد استحواذ ساويرس

GMT 07:26 2020 الأربعاء ,21 تشرين الأول / أكتوبر

سعر الدولار في مصر اليوم الأربعاء 21تشرين أول /أكتوبر 2020

GMT 21:31 2020 الإثنين ,12 تشرين الأول / أكتوبر

لعنة الغيابات تضرب بيراميدز قبل مواجهة الطلائع في الكأس

GMT 07:46 2020 الأحد ,11 تشرين الأول / أكتوبر

أسعار الأسماك في مصر اليوم الأحد 11 تشرين أول /أكتوبر 2020

GMT 21:43 2020 الجمعة ,09 تشرين الأول / أكتوبر

فنانة شابة تنتحر في ظروف غامضة

GMT 21:14 2020 الثلاثاء ,06 تشرين الأول / أكتوبر

مؤشرا البحرين يقفلان التعاملات على ارتفاع
 
Egypt-today

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

egypttoday egypttoday egypttoday egypttoday
Egypttoday Egypttoday Egypttoday
Egypttoday
بناية النخيل - رأس النبع _ خلف السفارة الفرنسية _بيروت - لبنان
Egypt, Lebanan, Lebanon