توقيت القاهرة المحلي 11:15:57 آخر تحديث
  مصر اليوم -

الجائزة

  مصر اليوم -

الجائزة

بقلم : نيفين مسعد

 أحكمت المربية الفاضلة إغلاق سترتها ذات اللون الأزرق الداكن حول صدرها، مرت على الأزرار الذهبية اللامعة وتأكدت من أن أي واحد منها لم يسقط هنا أو هناك، دارت دورة كاملة أمام المرآة لتتأكد من أن الچوب مفرودة وتصل إلى كاحلها. تمتمت كله تمام .. وأضافت نعم كله تمام إلا هذه الشعيرات التي نبتت فجأة قبل الموعد الشهري المعتاد لصباغتها، فهل غافلت هذه الشعيرات مصففها وتَخَفَت وسط الشعر الأبيض المتماوج فوق رأسها ؟ هل تعجل المصفف ولم يعط الشغل حقه لأن زبونة أخرى كانت تنتظره متأففة ؟ ليس الأمر مهما على أي حال فالمظهر العام لا بأس به أبدا. لا تخرج صاحبتنا إلى أي مكان إلا ومظهرها العام لا بأس به أبدا، حتى وإن ذهبت لتتسوق احتياجاتها الأسبوعية من الخضر والأجبان، هكذا تربت في بيت أسرتها وهكذا استمرت في بيتها .

ذاهبة هي الآن لترى مفاجأتها التي لا تعرف ما هي، جاءتها رسالة على تليفونها تخبرها أنها فازت بجائزة عينية من السوبر ماركت المعروف الذي تتعامل معه منذ افتتاحه وحتى يومنا هذا. هي عادة لا تستجيب أبدا للرسائل التي تتقاطر على تليفونها وتعزف كلها على النغمة نفسها: مبروك لقد فاز رقمك بسيارة، فاز برحلة لأداء العمرة، فاز بمبلغ كبير من المال، فاز بساعات مجانية للمكالمات التليفونية أو الإنترنت، أبدا لا تستجيب فالدجل في هذا النوع من الرسائل شائع. لكن مع هذا السوبر ماركت يوجد ميراث من الثقة، يعرفونها هي وكل أفراد أسرتها، يوصلون الطلبات إلى منزلها، وكثيرا ما توسطت لأصحاب السوبر ماركت لدى معارفها في وزارة التربية والتعليم ثم في وزارة التعليم العالي لاحقا. لهذا كله فلا موضع للدجل ولا للمخادعة .

ومع ذلك فحين أتتها رسالة الجائزة أطرقت مفكرة ليس لأنها تشك فيها لكن لأنها تتحرج منها فسلوكها العام يتميز بالتحفظ . تضحك بقَدَر وتفضفض بقَدَر وتثق بقَدَر وتتعامل بالأصول. والحال هكذا كيف لها وهي المربية الفاضلة أن تذهب إلى السوبر ماركت لتبسط يدها وتتلقى جائزة ؟ هي لا تريد أن ترفع الكلفة بينها وبين أصحاب السوبر ماركت حتى وإن جمعتها بهم عشرة طويلة تبرر لها أن تتبسط معهم. تشاورت مع أسرتها في الأمر كما تشاورهم في كل الأمور على طريقة فاتن حمامة في رائعة إحسان عبد القدوس "إمبراطورية ميم" ، فأشاروا عليها بالذهاب وإن لم يندهشوا من حيرتها فهم يعرفون تماما حرصها على الشكل العام والسلوك المنضبط. استجابت لمشورتهم واقتنعت بألا ضير في أن تذهب لبعض دقائق، تبرز الرسالة التي وصلتها على هاتفها إلى المسؤولين في السوبر ماركت، تتلقى منهم هديتها ولعلها تكون هدية كبيرة، ثم تنصرف في سلام وتعود أدراجها إلى المنزل.

توقفت سيارتها الستروين السوداء أمام السوبر ماركت فوجدته غير هذا الذي تعرفه، أحيط السوبر ماركت بسرادق ضخم كسرادقات المناسبات الاجتماعية فصار عبارة عن نقطة صغيرة وسط أمواج من البشر ذكّرتها بالشعيرات البيضاء القليلة في مفرقها، وقالت هذا مثل تلك. عندما فتح لها السائق النوبي باب سيارتها ونزلت سرعان ما جفلت، ما كل هذا الزحام وما كل هذه الجلبة وما كل هذه الأنوار الحمراء والخضراء والصفراء ؟ أما ما حسم موقفها وجعلها تقرر أن تنسحب من المكان فكان حضور إحدى القنوات الفضائية لتصوير لحظة تسلم الفائزين جوائزهم. الفائزون؟ نعم اكتشفت أنها ليست هي الفائزة الوحيدة وأن هناك آخرين تلقوا الرسالة التليفونية التي تلقتها، فها هو أحد أصحاب السوبر ماركت ينادي في الميكروفون على المهندس فلان الفائز الثالث بجهاز خلاط ألماني ماركة كذا، فإذا برجل بدين متوسط العمر يشق طريقه وسط الناس بصعوبة بالغة ويصافح صاحب السوبر ماركت رافعا جائزته في الهواء. لا لا لا محال أن تقف المربية الفاضلة في هذا المشهد وتبث الفضائيات صورتها وهي ترفع جائزتها إلى أعلى فيراها طلابها العفاريت ويتندرون .

بينما تهم صاحبتنا بدخول سيارتها والعودة للخلف دُر إذا بواحدة من زميلاتها المدرسات تناديها، ارتبكت.. تجمدت.. لم تنطق. لعل زميلتها هي الأخرى من الموعودين بجائزة من الجوائز، ليكن ذلك فما شأنها هي بالأمر؟ تفعل زميلتها ما تشاء فهمًا لا تتشابهان. أفلتت يدها من راحة زميلتها وحاولت دخول سيارتها مجددا فأتاها عبر مكبر الصوت من يقول: الجائزة السادسة وهي عبارة عن براد كهربائي صيني ماركة كذا فازت بها الأستاذة فلانة كبيرة المعلمات بمدرسة .... يا الله! قُضي الأمر وعرف به القاصي والداني. في مشهد لن تنساه قط وجدت زميلتها تدفعها بقوة للأمام ثم تكفل صف بشري تلو آخر بدحرجتها من الخلف للمقدمة وقد فقدت السيطرة على جسدها بالكامل. هي الآن تخوض حرب بقاء، لا تملك النكوص ولا يمكنها الهرب واستغاثتها تذهب هباء. في هذه الأثناء تحديدا استعادت تجربتها في لمس الحجر الأسود قبل أعوام .

حملتها الأمواج البشرية إلى المنصة.. عقلها لا يتوقف عن الدوران.. ماذا تفعل؟ الإعلام.. الطلاب.. الوقار.. المظهر العام .. واتتها فكرة . انتزعت الميكرفون من صاحبه وقالت: جئت إلى هنا رغم المشاغل الكثيرة وتحملت مشقة الخوض وسط الزحام لأهدي هذه الجائزة لأحدث زوجين شابين من زبائن السوبر ماركت، إن رسالتي كمربية لا تقف عند حد تعليم الشباب، لكنها تمتد لمساعدة هؤلاء الشباب قدر استطاعتي على أن يعيشوا حياة أفضل. صفق الحاضرون احتراما لها، ورفعت هي البراد إلى أعلى ونظرت إلى بؤرة الكاميرا الفضائية وقلبها يختلج بشدة، ومع ذلك فإنها تمالكت نفسها بجهد جهيد وبدت أمام الجميع كأنها ثابتة.

نقلا عن الشروق القاهرية
المقال يعبّر عن رأي الكاتب وليس بالضرورة رأي الموقع

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

الجائزة الجائزة



GMT 10:17 2024 الإثنين ,18 تشرين الثاني / نوفمبر

ممدوح عباس!

GMT 10:15 2024 الإثنين ,18 تشرين الثاني / نوفمبر

القديم والجديد؟!

GMT 08:33 2024 السبت ,02 تشرين الثاني / نوفمبر

فرنسا تتصالح مع نفسها في المغرب

GMT 03:37 2024 الأحد ,13 تشرين الأول / أكتوبر

حزب المحافظين البريطاني: «لليمين دُرْ»!

GMT 23:09 2024 الأحد ,06 تشرين الأول / أكتوبر

هل يمكن خلق الدولة في لبنان؟

اللون الأسود سيطر على إطلالات ياسمين صبري في عام 2024

القاهرة ـ مصر اليوم

GMT 09:42 2025 السبت ,04 كانون الثاني / يناير

أفكار هدايا لتقديمها لعشاق الموضة
  مصر اليوم - أفكار هدايا لتقديمها لعشاق الموضة

GMT 10:08 2025 السبت ,04 كانون الثاني / يناير

وجهات سياحية مناسبة للعائلات في بداية العام الجديد
  مصر اليوم - وجهات سياحية مناسبة للعائلات في بداية العام الجديد

GMT 09:50 2025 السبت ,04 كانون الثاني / يناير

نصائح بسيطة لإختيار إضاءة غرف المنزل
  مصر اليوم - نصائح بسيطة لإختيار إضاءة غرف المنزل

GMT 00:01 2025 الأحد ,05 كانون الثاني / يناير

"لطفي لبيب يودع الساحة الفنية ويعلن اعتزاله نهائيًا"
  مصر اليوم - لطفي لبيب يودع الساحة الفنية ويعلن اعتزاله نهائيًا

GMT 14:55 2021 الخميس ,04 شباط / فبراير

التفرد والعناد يؤديان حتماً إلى عواقب وخيمة

GMT 07:29 2020 الأربعاء ,17 حزيران / يونيو

ارمينيا بيليفيلد يصعد إلى الدوري الألماني

GMT 13:03 2017 الخميس ,07 كانون الأول / ديسمبر

"فولكس فاغن" تستعرض تفاصيل سيارتها الجديدة "بولو 6 "

GMT 18:07 2017 الأربعاء ,08 تشرين الثاني / نوفمبر

المنتخب الإيطالي يتأهب لاستغلال الفرصة الأخيرة

GMT 07:24 2024 الخميس ,19 أيلول / سبتمبر

دراسة توضح علاقة القهوة بأمراض القلب

GMT 22:13 2024 الجمعة ,07 حزيران / يونيو

بسبب خلل كيا تستدعي أكثر من 462 ألف سيارة

GMT 00:02 2023 الجمعة ,20 كانون الثاني / يناير

مبيعات فولكس فاغن تتجاوز نصف مليون سيارة في 2022

GMT 08:36 2021 الخميس ,07 تشرين الأول / أكتوبر

أيتن عامر تحذر من المسلسل الكوري «squid games»

GMT 20:44 2021 الأربعاء ,15 أيلول / سبتمبر

شيرين رضا تتعرض للخيانة الزوجية من صديقتها المقربة
 
Egypt-today

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

egypttoday egypttoday egypttoday egypttoday
Egypttoday Egypttoday Egypttoday
Egypttoday
بناية النخيل - رأس النبع _ خلف السفارة الفرنسية _بيروت - لبنان
Egypt, Lebanan, Lebanon