بقلم-د. نيفين مسعد
قبل أقل من عامين وتحديدا فى 31 ديسمبر 2016 ودّعت جريدة السفير اللبنانية قراءها وصدر عددها الأخير يحمل العنوان التالى: «الوطن بلا سفير». هذا العنوان الذى تم اختياره بذكاء شديد كان يشير إلى ما هو أبعد من إغلاق جريدة، صحيح أن توقف أى جريدة عن الصدور هو خبر سيئ فى حد ذاته لأنه يعنى أن لعبة الشطرنج ستنقص لاعبا وقد يكون هذا اللاعب هو الملك نفسه، لكن الأهم أن احتجاب جريدة يعنى تحجيم قدرة الأفكار على الذيوع والانتشار والتأثير، وهذا جزء من القوة الناعمة سواء أكانت مملوكة للدولة أم مملوكة للأفراد. وبالتالى فحين حمل العدد الأخير من السفير العنوان الذى سبقت الإشارة إليه كان القصد منه أن التيار السياسى الذى تمثله الجريدة فقدَ ناطقا رئيسا باسمه، وهذا التيار هو التيار العروبي.
على خلاف العدد الأخير من السفير الذى ودع قراءه فإن العدد الأخير من الحياة لم يودعهم، وصدر عدد الخميس 31 مايو دون إشارة إلى أن شمس الأول من يونيو ستسطع وعالم الصحافة العربية بلا «حياة». لكن كان من المفارقة أن العدد الأخير نفسه قد شَيّع قطعة عزيزة من التراث السينمائى العربى هى الفنانة الكبيرة مديحة يسرى وكأنها باكورة مواكب الوداع الجماعى للماضى بنجومه وورقه وألقه. نعم سمع قرّاء الحياة بالأزمة المالية التى تعصف بالجريدة وبغيرها من الجرائد الورقية مع انخفاض معدلات قراءتها، ونعم أخذوا خبرا بغلق مكتب لندن وتحوُل مقر دبى إلى المقر الرئيس، بل إنهم علموا أيضا بالمواعيد المتتالية التى أُعلن عنها لحجب الجريدة، لكن كما فى كل المرات السابقة كانوا يأملون أن تستمر الحياة فلم تستمر.
فى مسار جريدة الحياة محطات أساسية من المهم التوقف عندها، المحطة الأولى هى محطة النشأة فى عام 1946 عندما أصدر القطب الشيوعى كامل مروّة فى بيروت جريدة تحمل اسم الحياة. هكذا قدّر للشوام أن تكون لهم أياديهم البيضاء على أكبر الصحف العربية وأقدمها، فكما أسس الأخوان بشارة وسليم تقلا جريدة (الأهرام) المصرية فى عام 1876 أسس كامل مروّة جريدة الحياة بعد هذا التاريخ بسبعين عاما بالتمام والكمال. وكان الشعار الذى اتخذه مروّة للجريدة هو «إن الحياة عقيدة وجهاد» وبجوار هذا الشعار كان يظهر بخط صغير اسم شوقى، فى إشارة إلى أمير الشعراء أحمد شوقى الذى كان شعار الجريدة مستلا من إحدى قصائده. فيما بعد اختفى اسم شوقى واستمر الشعار ملازما للجريدة. لم تكن الحياة هى الإصدار الصحفى الوحيد لمروّة لكنها كانت إصداره الأهم، فلقد كانت له إصدارات أخرى أقرب للطابع المحلى اللبنانى من قبيل صحيفة الديلى ستار بالإنجليزية وصحيفة بيروت ماتان بالفرنسية، أما صحيفة الحياة فكانت مقروءة عربيا وفى بلدان المهجر على أوسع نطاق ممكن، ولو شئنا دقة التعبير لقلنا إنها الجريدة الأولى للنخب العربية وإنها أسست مدرسة فى الصحافة العربية تقترن باسمها: مدرسة الحياة. وعندما أطلق أحدهم الرصاص على كامل مروّة وهو فى مكتبه بمقر الجريدة فى العاصمة اللبنانية وأرداه قتيلا عام 1966 فإن الحياة لم تتوقف، لكن إدارتها انتقلت من كامل إلى زوجته ومنها إلى ابنه جميل، وحدها الحرب الأهلية اللبنانية هى التى أسكتت صوت الحياة بعد ذلك بعشر سنوات كاملة.
المحطة الثانية هى محطة الولادة الجديدة للحياة عام 1988 على يد جميل مروّة الذى أعاد إحياءها انطلاقا من العاصمة البريطانية، فالحرب اللبنانية كانت قد استنزفت أطرافها تماما وبات لبنان متأهبا لحدث بحجم اتفاق الطائف. لم يكن لبنان وحده الذى تغير لكن العالم كله كان على حافة تغيير كبير مع إرهاصات تفكك الكتلة الشيوعية، هذه الكتلة التى حمل فكرها آل مروّة . فى الأربعينيات عندما استعرت معركة الأحلاف واحتدم الصراع من أجل التحرر الوطنى كان لشيوعيى لبنان كما للشيوعيين عموما موقفهم الواضح من هذه القضايا وكان هناك قطب دولى كبير يسندهم، أما وقد انهار الاتحاد السوڤيتى وتفردت الولايات المتحدة بقيادة النظام الدولى فقد وجد الشيوعيون أنفسهم فى موقف لا يُحسدون عليه. انعكست هذه الأزمة الكبرى على جريدة الحياة، وفى تلك الظروف انتقلت ملكيتها إلى الأمير خالد بن سلطان عام 1996.
هنا بدأت المحطة الثالثة ـ الأخيرة ـ من مسار الجريدة، فعلى الرغم من هذه النقلة الأيديولوجية إذا جاز التعبير لملكية الحياة فإنها حافظت على رصانتها الخبرية، واستكتبت قامات بارزة عربية وغير عربية، وأسهمت بمقالاتها وتحقيقاتها ومقابلاتها فى إغناء السجال حول أبرز التطورات التى مرت بها المنطقة والعالم . صارت مرجعا لا غنى عنه لكل المهتمين بالشئون العربية سواء أكانوا أكاديميين أو باحثين أو شخصيات عامة، ومثل ملحقها الثقافى إضافة مهمة فى مجاله أما المجلات التى صدرت عن مؤسسة الحياة فكانت أقل ذيوعا من الجريدة.
ها هى ورقة جديدة من شجرة الصحافة العربية تسقط كما تسقط أوراق الخريف، هاهى جريدة الحياة تنتقل من أكشاك الباعة إلى الفضاء الإلكتروني..هذا الفضاء الذى ينتقل إليه كل شيء تباعا من أول المعاملات التجارية حتى العلاقات الاجتماعية. لكن معركة الصحافة الورقية رغم صعوبتها تستحق أن تخاض، صحيح أن وسائل التواصل تنقل الأحداث أسرع ويقبل عليها الشباب أكثر لكن تظل الصحافة الورقية هى الذاكرة التاريخية التى لا يمكن التلاعب بها، أما الطبعات الإلكترونية فليس هناك ما يمنع من تعرضها للتغيير.
نقلا عن الأهرام القاهرية
المقال يعبّر عن رأي الكاتب وليس بالضرورة رأي الموقع