توقيت القاهرة المحلي 13:28:44 آخر تحديث
  مصر اليوم -

الصوت الواهن

  مصر اليوم -

الصوت الواهن

بقلم : نيفين مسعد

 أغلق صاحبنا خط التليفون وارتسمت علي وجهه ابتسامة خجولة، هز رأسه بالإيجاب عدة مرات علامة علي الرضا وانتحي ركنا في شرفته الصغيرة وراح يدخن سيجارته. ما هذا ؟ ألم يمنعك طبيبك يا فلان من التدخين منعا باتا قاطعا ؟ ألم يقل لك إذا عدت للتدخين فلا شأن لي بك ولا تسألني عن مصير عمليتك الجراحية؟ نعم هذا ما قاله الطبيب، ومع ذلك راح صاحبنا يستميل ضميره بالقول إن هذه مناسبة سعيدة تستحق الاحتفال بها، وهو لا يشعر بطعم الاحتفال إلا حين يشعل سيجارة وتروح حلقات الدخان تتمايل أمام ناظره وكأنها مجموعة من الراقصين المهرة يتخاصرون في رقصة ڤالس لا أبدع منها ولا أروع . قبل ذلك كان صاحبنا يجيد التعبير عن سعادته بأشكال مختلفة ذهبت جميعا ولم تبق إلا السيجارة ، كان يلجأ إلي لعب النرد مع شلته من دفعة ١٩٧٥ ويكايدهم بمغامراته النسائية ويعيد ويزيد فيها ثم لم يعد يلعب، كان يمارس السباحة في نادي القاهرة ويتمني أن يكون عضوا في فريق النادي فلم يعد يعبأ بالأمر، كان يتلذذ بطعم آيس كريم (الكلو كلو) الذي يطلقون عليه الآن اسم ( كونو) فصار نادرا ما يشتاق لمذاقه، تغير مزاجه وضعفت شهيته لكن هذه اللفافة اللعينة ظلت علي حالها وكأنها محشوة بذرات السعادة، فلا هو زهد فيها ولا هي ملت أنامله.

فضفض يا أخي.. تكلم .. قل ما الذي أبهجك في هذا الصباح العادي جدا ؟ لم يتردد صاحبنا ولا حاول أن يراوغ.. صارح نفسه في بساطة كما هي عادته بأن ما أسعده هو أن للمرة الأولي من سنين أنهي الصيدلي الذي يتعامل معه مكالمته قائلا: من فضلك سلٌم لي علي الحاجة. غريب هو أمرك يا رجل فما وجه السعادة في أن يُحملك أحدهم سلاما لفلانة أو علانة ؟ .. إذا عُرِف السبب بطُل العجب. في واقع الأمر لم تكن هذه الحاجة التي كان يقصدها الصيدلي غيره هو نفسه، نعم لا توجد هناك حاجة يسلم عليها ولا يحزنون فصاحبنا مطلق بعد زيجة قصيرة لم يعد لتكرارها أبدا، وأخته لا تعرف هذه الصيدلية ولم تتعامل مع صاحبها من قبل، ومعاونته لا ترد علي التليفون الأرضي أبدا وتعتبر ذلك خارج نطاق مسؤولياتها حتي لو رن جرس التليفون في اليوم الواحد مائة مرة. هو إذن الحاجة التي يقصدها الصيدلي، والحاجة هو، فكيف كان ذلك ؟

بدأت حكايته عندما اكتشف لأول مرة إصابته بمرض القلب، في الحقيقة لم تكن هذه النتيجة مفاجئة في حالته هو بالذات، فهو مدخن شره وفاقد القدرة علي ضبط انفعالاته تماما، حاول ترويض مشاعره وفشل ثم قرر أن يترك نفسه علي سجيتها. كان مرضه بالقلب إذن أمرا غير مستبعد لكن الحقائق الصعبة عادة ما تفاجئنا حتي لو كنا نتوقعها. بالتدريج استوعب صاحبنا الصدمة وتقمص وضع مريض القلب، دخل في شخصيته وتصرف كما يفعل أي ممثل بارع، إذا صعد الدرج صعده كسولا متباطئا، وإذا تنهد أخرج زفيره متكسرا متقطعا، قلل جهده إلي الحد الأدنى، وضغط سفرياته المتكررة ما أمكن، و..... لم يعد يتحدث إلا بصوت خفيض. اختلط لديه الواقع بالوهم فلم يعودا يتمايزان، وفي أول مرة التقط الهاتف ليطلب دواء السيولة أتاه الرد المهذب من الصيدلي: سيصِلُكِ الدواء في خلال نصف ساعة يا .. حاجة! نزل عليه لقب حاجة كالصاعقة ولم يغمض له جفن في تلك الليلة، وحيثما قلٌب رأسه علي وسادته صادفته قطرات ندية . أوجعه بشدة أن صوته بلغ من الوهن حدا جعل الصيدلي يظن أن مُحَدِثه امرأة، لم يستفزه اللقب في حد ذاته رغم أنه لا يحبذ مناداة الناس بعباداتهم الدينية، ومع ذلك تألم إلي درجة لم يقو معها علي تصحيح خطأ الصيدلي لا في تلك المرة ولا في كل المرات التي تلتها. أتراه تألم لأنه شعر بالعَجَز وهو الذي كان يحلم بأن يكون ذات يوم سباحا أولمبيا لا يُشّقُ له غبار؟ أم تراه تألم لأنه أحس بإهانة لرجولته عندما اعتبره الصيدلي امرأة؟ يملك من الشجاعة ما يجعله يعترف بأنه غضب لأنه أدرك أنه شاخ ووهن، وغضب أيضا لأنه تربي علي ثقافة رديئة جدا تجعل الأنوثة صفة للمعايرة .

في انتظار العملية الجراحية أغمض صاحبنا عينيه علي الكمامة ذات اللون السماوي تخفي نصف وجه الطبيب، استسلم لشعور بالخدر اللذيذ بينما يسري السائل العجيب في وريده، انقطع اتصاله بما حوله وراح في دنيا غير الدنيا. كانت عقارب الساعة في آخر مرة رآها تقف عند الواحدة ظهرا بالضبط، حتي إذا انتبه من غفوته ونظر إليها مجددا أدرك أنه قضي ثلاث ساعات كاملة في برزخه، أحاطت به جلبة وتمنيات طيبة ووجوه يعرفها وأخري لا يعرفها ، وحمد الله علي أن مازال في العمر بقية .

توالت أيام كثيرة وصباحات عديدة انتقل خلالها من المستشفى للمنزل ، ترك الفراش إلي الشرفة، خلع بيچامته وارتدي ملابس الرياضة، تمشي عشر دقائق فعشرين دقيقة فنصف ساعة، أدخل بالتدريج بعض الدسم إلي طعامه، وعاد كما كان تقريبا. وفي هذا الصباح اللطيف اعتزم أمرا وراهن نفسه عليه. ضغط علي رقم الصيدلية المسجل لديه، تنحنح ليطرد من صوته آثار الوهن، طلب علبة من دواء السيولة كالمعتاد وراح ينتظر الرد. لم يتعرف الصيدلي علي صوت محدثه وقد أتاه قويا واثقا، هو بالتأكيد ليس صوت الحاجة المسنة التي تطلب الدواء من نفس هذا الرقم ولعل الطالب هو زوجها أو ابنها، وجد الصيدلي من باب اللياقة أن يحيي زبونته القديمة ويحتفي بها فطلب من محدثه المجهول أن يبلغ الحاجة السلام .

هكذا كسب صاحبنا الرهان فلم يتعامل معه الصيدلي باعتباره الست الحاجة. كان صاحبنا يعلم بالتأكيد أنه يسترد عافيته رويدا رويدا، ومع ذلك فإنه لم يشأ اختبار نفسه والرهان عليها إلا عندما اطمأن تماما إلي أنه صح وبرئ وشفي من إعيائه. تململ في جلسته بالشرفة وأشعل سيجارة أخيرة، راح يدندن بمزاج عال أغنيته المفضلة "كليوباترا" واندمج معها تماما، علا صوته، علا أكثر، تحرج من أن يزعج صوته الجيران وقت قيلولتهم، هز رأسه في مزيج من الرضا والاستنكار قائلا: ما يصحش كده. دلف إلي داخل منزله واستمر في الغناء.

نقلا عن الشروق القاهرية
المقال يعبّر عن رأي الكاتب وليس بالضرورة رأي الموقع

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

الصوت الواهن الصوت الواهن



GMT 10:17 2024 الإثنين ,18 تشرين الثاني / نوفمبر

ممدوح عباس!

GMT 10:15 2024 الإثنين ,18 تشرين الثاني / نوفمبر

القديم والجديد؟!

GMT 08:33 2024 السبت ,02 تشرين الثاني / نوفمبر

فرنسا تتصالح مع نفسها في المغرب

GMT 03:37 2024 الأحد ,13 تشرين الأول / أكتوبر

حزب المحافظين البريطاني: «لليمين دُرْ»!

GMT 23:09 2024 الأحد ,06 تشرين الأول / أكتوبر

هل يمكن خلق الدولة في لبنان؟

إطلالات هند صبري مصدر إلهام للمرأة العصرية الأنيقة

القاهرة ـ مصر اليوم

GMT 09:22 2024 الخميس ,21 تشرين الثاني / نوفمبر

قرية بورميو الإيطالية المكان المثالي للرياضات الشتوية
  مصر اليوم - قرية بورميو الإيطالية المكان المثالي للرياضات الشتوية

GMT 09:31 2024 الخميس ,21 تشرين الثاني / نوفمبر

الزرع الصناعي يضيف قيمة لديكور المنزل دون عناية مستمرة
  مصر اليوم - الزرع الصناعي يضيف قيمة لديكور المنزل دون عناية مستمرة

GMT 10:54 2024 الخميس ,21 تشرين الثاني / نوفمبر

الفستق يتمتع بتأثير إيجابي على صحة العين ويحافظ على البصر
  مصر اليوم - الفستق يتمتع بتأثير إيجابي على صحة العين ويحافظ على البصر

GMT 15:05 2024 الأربعاء ,20 تشرين الثاني / نوفمبر

شيرين رضا خارج السباق الرمضاني 2025 للعام الثالث علي التوالي
  مصر اليوم - شيرين رضا خارج السباق الرمضاني 2025 للعام الثالث علي التوالي

GMT 10:18 2024 الخميس ,21 تشرين الثاني / نوفمبر

"نيسان" تحتفي بـ40 عامًا من التميّز في مهرجان "نيسمو" الـ25
  مصر اليوم - نيسان تحتفي بـ40 عامًا من التميّز في مهرجان نيسمو الـ25

GMT 08:11 2024 الخميس ,31 تشرين الأول / أكتوبر

وجهات سياحية مميزة توفر متعة التزلج في فصل الشتاء

GMT 16:32 2020 الجمعة ,18 كانون الأول / ديسمبر

والدة الفنان المصري عمر كمال تكشف موقفها من عمله

GMT 09:42 2020 الأحد ,06 كانون الأول / ديسمبر

تعرف على قائمة الإجازات الرسمية 2021 في مصر

GMT 02:51 2020 الجمعة ,27 تشرين الثاني / نوفمبر

إصابة لاعب الأهلي المصري محمد أشرف بكورونا

GMT 20:23 2020 الأربعاء ,28 تشرين الأول / أكتوبر

طوارئ في قرية في محافظة قنا بسبب كورونا

GMT 18:31 2020 الإثنين ,28 أيلول / سبتمبر

مورينيو يوضح إصابة سون هي الأولى فقط المزيد قادم

GMT 09:49 2020 الإثنين ,27 تموز / يوليو

جيونبك يعزز موقعه في وصافة الدوري الكوري
 
Egypt-today

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

egypttoday egypttoday egypttoday egypttoday
Egypttoday Egypttoday Egypttoday
Egypttoday
بناية النخيل - رأس النبع _ خلف السفارة الفرنسية _بيروت - لبنان
Egypt, Lebanan, Lebanon