توقيت القاهرة المحلي 13:28:44 آخر تحديث
  مصر اليوم -

الزائرة

  مصر اليوم -

الزائرة

بقلم : نيفين مسعد

 كان الهدوء تاما فى المنزل حتى أوشكت أن أسمع صوت أنفاسى، لا أحد معى وكأنى فى خلوة تامة، لا أصوات تنبعث من الخارج على الأقل حتى الآن، أهملنى الكواء وحارس العقار فأمنت طرقاتهما ولو مؤقتا. هذا إذن جو مثالى للاسترخاء أو الكتابة أو حتى الشرود، وتلك مزايا ثمينة لا يقدرها إلا من يكتوى بصخب القاهرة وضوضائها. أجلت مكالماتى المتأخرة وتفرغت للاشيء، فالخلوة لا حِس فيها ولا خبر وكل شيء من الداخل وإليه. نعم الوحدة قاتلة هذا صحيح لكن لا ضير منها أحيانا ولا بأس من الإنصات لأصوات من يحجب الضجيج أصواتهم. قبل عام بالتمام والكمال حضرتُ مع حفيدتى فى المهجر درسا كانت تدربهم فيه المُدرسة الشابة على الاستماع للطبيعة الساحرة، طَلَبَت منهم المُدرسة أن يصمتوا لخمس دقائق ويعطوا آذانهم لصوت العصافير والمياه والهواء واهتزاز العُشب الأخضر. بطبيعة الحال لم يُعجب الأطفال هذا الفرمان المفاجئ الذى يحرمهم من الشقاوة والثرثرة، وفشلت المُدرسة فعلا فى السيطرة على العفريت چون، لكن بالتدريج سيتعلم چون كما سيتعلم زملاؤه أيضا أنهم ليسوا وحدهم فى هذه الدنيا وأن دقائق الصمت تتيح للمخلوقات الأخرى أن تناجيهم وتهمس لهم.

قطع حبل الصمت صوتُ غريب جاءنى من الصالة، وللوهلة الأولى كذّبت أذنّى، تكرر الصوت وبدا كما لو أن أحدا يعبث بمجموعة من الأوراق، فهل تسلل لص منتهزا فرصة وجودى وحيدة فى المنزل؟ على الرغم من أن هذا الاحتمال أصبح واردا مع انتشار حوادث السرقة بين الأهل والأصحاب إلا أننى استبعدته على الفور، فاللصوص لا يعبثون بالأوراق ولا يتسكعون فى صالات المنازل. تكرر الصوت فهاجمنى خاطر مفزع من أن يكون فأر ضال قد تسرب إلى الشقة، ولم لا أولم يحدث هذا مع أحد الجيران قبل شهرين؟ ذهب الاسترخاء إلى غير رجعة، تذكرتُ العظيم فؤاد المهندس فى مسرحية أنا وهو وهى حين تشبث ببندقية الصيد ليقنص الفأر المزعوم، أخذ يطلق صيحة تشبه صيحة طرزان حتى يرهب الفأر وراح ينقل خطواته المرتعشة فى اتجاه الغرفة المغلقة، حتى إذا هو دلف إلى الداخل أغلقت عليه شويكار الغرفة بالمفتاح وتمتعت بنوم هادئ على فراشه. نعم تذكرتُ تفاصيل المشهد جيدا جدا لكن لا توجد قوة على الأرض تدفعنى لمطاردة فأر. قلتُ لنفسى، الآن سوف يختبئ هذا الفأر أو يعود أدراجه من حيث جاء أو ربما تأتينى نجدة من الخارج.. ممممممم الآن فقط تدركين قيمة وجود الناس حولك وتزهدين فى صمت الطبيعة الساحرة؟ رددتٌ بأن هذا ليس وقت الفلسفة لكنه وقت العمل، فما العمل؟

دق جرس الباب فأصبح لابد مما ليس منه بد، بعد ثوان قضيتها فى التردد بين أن أجيب الطارق أو أدعه ينصرف إلى حال سبيله قررت أن أفتح الباب. تحركت ببطء متوجسة لا أعرف من أى جهة يأتينى الخصم، ثم حانت منى التفاتة إلى الأريكة أسفل النافذة فوجدتها هناك، معقول هذه هى أنتِ؟ هل أنتِ من كنتِ تصدرين هذا الصوت المبهم الخفيض؟ هل أنتِ من خطفَت تركيزى واقتحَمت خلوتى وتلاعبَت بخواطري؟ كانت حمامة من حمام البيوت تقف فوق الأريكة والأرجح أنها سقطت عليها، بدا لونها البنى القريب للون قماش الأنتريه كأنه نقش بارز فيه، وبدا جناحاها المطويان فى ترقب كأنهما يكسران دون تعمد حدة اللون البنى ببعضٍ من الريش الأبيض والرمادى. أفزع قدومى الزائرة الوديعة فطارت وارتطمت بزجاج النافذة ثم هوت مجددا على الأريكة، رأسها يتحرك فى كل اتجاه، تبحث عن مخرج ولا تبصره.. نست أنها دخلت من هذه الفُرجَة الصغيرة فى النافذة يتجدد عبرها هواء البهو كالمعتاد. ماذا أصنع لكِ أيتها الحبيبة؟ قولى لى بماذا أُضَيفُك.. فتافيت الخبز جاهزة فهل تقبلينها؟ أنٌى لى أن أُهدِئ من روعك وكيف أشرح لك أن البيت بيتك وأنى لا أريد بكِ سوءا؟ دق الجرس مجددا فزاد ارتباكها، ألا لعنة الله على هذا الطارق، لم أعره التفاتا.

لا تجربة ناجحة لى فى رعاية الطيور، فمنذ أن مات أحد عصفورّى الكناريا اللذين اشتريتهما وأنا زوجة حديثة أطلقتُ العصفور الآخر إلى حال سبيله ولم أقتنِ بعدها طيورا قط. أنتِ أيضا أيتها الحبيبة سوف أطلق سراحك، سأعيدُك إلى السماء والشمس وأسراب الطيور، لكن هل أنا أعيدُك فعلا إلى الحرية أم أرُدك إلى القفص؟ أعرف الإجابة، وأعرف أيضا أن أيامك معدودات ككل حمام البيوت لكن قولى لى أين المفر فعندى أيضا لا أمل فى المستقبل؟ لا.. لن أكرر مأساة عصفور الكناريا.. لن أجلد ذاتى مرتين، اقتربتُ ببطء من الحمامة لا أكاد ألامس الأرض كى لا أزيدها جزعا فتراجعَت للخلف والتصقَت بظهر الأريكة، اقتربتُ منها.. اقتربتُ أكثر.. التقطتُها بحرص ووضعتُها على وسادة صغيرة وللعجب أنها استكانت. فتحتُ النافذة على مصراعيها ورمقتُ الزائرة المفاجئة بنظرة أخيرة قبل أن أسلمها للفضاء الواسع.

لم يكن على البال أبدا هذا السيناريو الصباحى ليوم هادئ ومناسب جدا لأخلو لنفسى وأُسمِعها صوت مخلوقات الله كما فعلت الُمدَرِسة مع تلاميذها الصغار فى هذا البلد البعيد من بلدان المهجر. لكن عجبا لى فلقد كانت الحمامة فى بيتى وملك يدى ومع ذلك لم أسمع ما تقول، لم أسمع؟ لا إنها لم تتكلم، لم تتكلم لأنها ذُعِرت.. وربما لأنها مريضة.. أو لأننى لم أعطها فرصة، وربما لكل هذا معا. رحتُ أسوى الأريكة علنى أخرج من الموقف برمته.. وسط اللون البنى كانت هناك بقعة خضراء ندية، تحسستُها فعلقت بأصابعى.. تفاءلتُ بها كثيرا.. فها هى الزائرة الحبيبة تأبى أن تغادرنى إلا بعد أن تترك لى تذكارا منها، تترك تذكارا يقولون عنه فى أمثالنا الشعبية إن من يجده تتجدد كسوته، فهل تتجدد كسوة الأريكة؟ فى حدود الأمد المنظور لا نية عندى لإعادة تنجيد الأنتريه.

نقلاً عن الشروق الفاهرية

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

الزائرة الزائرة



GMT 10:17 2024 الإثنين ,18 تشرين الثاني / نوفمبر

ممدوح عباس!

GMT 10:15 2024 الإثنين ,18 تشرين الثاني / نوفمبر

القديم والجديد؟!

GMT 08:33 2024 السبت ,02 تشرين الثاني / نوفمبر

فرنسا تتصالح مع نفسها في المغرب

GMT 03:37 2024 الأحد ,13 تشرين الأول / أكتوبر

حزب المحافظين البريطاني: «لليمين دُرْ»!

GMT 23:09 2024 الأحد ,06 تشرين الأول / أكتوبر

هل يمكن خلق الدولة في لبنان؟

إطلالات هند صبري مصدر إلهام للمرأة العصرية الأنيقة

القاهرة ـ مصر اليوم

GMT 09:22 2024 الخميس ,21 تشرين الثاني / نوفمبر

قرية بورميو الإيطالية المكان المثالي للرياضات الشتوية
  مصر اليوم - قرية بورميو الإيطالية المكان المثالي للرياضات الشتوية

GMT 09:31 2024 الخميس ,21 تشرين الثاني / نوفمبر

الزرع الصناعي يضيف قيمة لديكور المنزل دون عناية مستمرة
  مصر اليوم - الزرع الصناعي يضيف قيمة لديكور المنزل دون عناية مستمرة

GMT 10:54 2024 الخميس ,21 تشرين الثاني / نوفمبر

الفستق يتمتع بتأثير إيجابي على صحة العين ويحافظ على البصر
  مصر اليوم - الفستق يتمتع بتأثير إيجابي على صحة العين ويحافظ على البصر

GMT 15:05 2024 الأربعاء ,20 تشرين الثاني / نوفمبر

شيرين رضا خارج السباق الرمضاني 2025 للعام الثالث علي التوالي
  مصر اليوم - شيرين رضا خارج السباق الرمضاني 2025 للعام الثالث علي التوالي

GMT 10:18 2024 الخميس ,21 تشرين الثاني / نوفمبر

"نيسان" تحتفي بـ40 عامًا من التميّز في مهرجان "نيسمو" الـ25
  مصر اليوم - نيسان تحتفي بـ40 عامًا من التميّز في مهرجان نيسمو الـ25

GMT 08:11 2024 الخميس ,31 تشرين الأول / أكتوبر

وجهات سياحية مميزة توفر متعة التزلج في فصل الشتاء

GMT 16:32 2020 الجمعة ,18 كانون الأول / ديسمبر

والدة الفنان المصري عمر كمال تكشف موقفها من عمله

GMT 09:42 2020 الأحد ,06 كانون الأول / ديسمبر

تعرف على قائمة الإجازات الرسمية 2021 في مصر

GMT 02:51 2020 الجمعة ,27 تشرين الثاني / نوفمبر

إصابة لاعب الأهلي المصري محمد أشرف بكورونا

GMT 20:23 2020 الأربعاء ,28 تشرين الأول / أكتوبر

طوارئ في قرية في محافظة قنا بسبب كورونا

GMT 18:31 2020 الإثنين ,28 أيلول / سبتمبر

مورينيو يوضح إصابة سون هي الأولى فقط المزيد قادم

GMT 09:49 2020 الإثنين ,27 تموز / يوليو

جيونبك يعزز موقعه في وصافة الدوري الكوري
 
Egypt-today

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

egypttoday egypttoday egypttoday egypttoday
Egypttoday Egypttoday Egypttoday
Egypttoday
بناية النخيل - رأس النبع _ خلف السفارة الفرنسية _بيروت - لبنان
Egypt, Lebanan, Lebanon