توقيت القاهرة المحلي 11:29:49 آخر تحديث
  مصر اليوم -

صعود وسقوط مشروع تصنيع مصر (4)

  مصر اليوم -

صعود وسقوط مشروع تصنيع مصر 4

بقلم - د. طه عبد العليم

كان إجهاض مشروع محمد على لتصنيع مصر حصاد تصفية عناصر أى مشروع للتصنيع، وأهمها: السياسات الاقتصادية المحفزة لأسبقية التصنيع، وتوافر رءوس الأموال وتحقيق الأرباح وأسواق المنتجات المصنعة وإنتاج أو استيراد الآلات الحديثة، والعمالة الفنية المدربة، والخامات اللازمة للصناعة، وتوافر مصادر الطاقة. وأكتفى هنا بإطلالة أخرى على ما أوردته الباحثة الرصينة عفاف لطفى السيد مارسو فى كتابها المهم والموثق؛ المعنون: مصر فى عهد محمد على.

وأسجل، أولا ـ أن المصانع التى أغلقت أبوابها بعد عام 1841 لم تغلق لأن محمد على فقد اهتمامه بها، ولكن لأنه لم يعد لدى هذه المصانع أسواق لبضائعها بعد وأد سياسة حماية الصناعة المصرية الوليدة بوجه المنافسة غير العادلة من جانب الصناعة الأوروبية، بينما لم تقم صناعة فى أوروبا دون تعريفات جمركية حمائية. وقد زعم بعض المؤرخين الغربيين أن التصنيع فى مصر كان محكوماً عليه بالفشل بسبب عدم توافر سوق محلية، متجاهلين أنه قد تمت تصفية السوق الأهم للصناعة المصرية بفرض الدول الاستعمارية تقليص عدد الجيش المصرى. ومع الثورة الصناعية كانت الصناعة الأوروبية فى حاجة لأسواق خارجية حتى تستطيع بيع سلعها، ومع إجبار والى مصر على التخلى عن امبراطوريته لم تنعم صناعتها بهذه الميزة. وقد كان مقدراً أن تموت ميتة طبيعية الصناعات الحربية بعد تفكيك الجيش. لكنه حتى هنا كان يمكن لأحواض بناء السفن المصرية أن تظل مزدهرة، كما حدث لتلك اليونانية، لو سمح للمصرية بالمنافسة ولم تقوض روابطها التجارية. وثانيا ـ أن بعض المؤرخين قد زعموا أن التصنيع فى مصر كان محكوماً عليه بالفشل لأن البلاد لم يتوافر لها إلا قدر قليل من الوقود، وقدر أقل من مصادر الثروة المعدنية؛ لكن الفحم كان يستورد بالفعل، ولم يكن عائقا للتصنيع. وقد أبرز البعض أن إقامة الصناعة الآلية الكبيرة والحديثة تتطلب تكلفة رأسمالية ضخمة، لكن محمد على تمكن من توفيرها بفرضه احتكار الدولة للزراعة والصناعة والتجارة، وهو ما لم يعد متاحاً بعد فرض الاستعمار تصفية احتكار الدولة. ورغم مساوئ نظام الاحتكار فقد كان ضرورة للإسراع لتوجيه الزراعة والتجارة نحو إنتاج وتصدير المنتجات الزراعية، ولتسريع التراكم الرأسمالى فى الصناعة، ولتوفير الموارد لبناء الجيش والأسطول ركيزة بعث الهوية الوطنية وتأسيس دولة المواطنة.

وثالثا ـ أن صناعة وتجارة المنسوجات المصرية التى كانت قائمة قبل ولاية محمد على كانت قد دمرت بالفعل تحت قصف واردات المنسوجات البريطانية الرخيصة. وجاء إحياء وتحديث وتوسيع صناعة المنسوجات القطنية متزامنا مع توسع مشابه فى إنجلترا بعد الثورة الصناعية. وأدى اختراع آلة السحب إلى إعطاء دفعة كبيرة لتقنيات غزل القطن؛ واستورد محمد على المغازل التى تدار بالطاقة البخارية. وسجل القنصل الفرنسى دروفيتى أن محمد على كان يأمل أن تصبح مصر أقل احتياجا للمنتجات الأجنبية، وأن تكون قادرة على إمداد جيرانها بهذه المنتجات. وكان إبراهيم باشا ابن محمد على وساعده الأيمن يبدو على علم بكل شيء عن الصناعة، وأثناء وجوده فى أوروبا لم يكن مهتماً بغير زيارة المصانع، طبقاً لما سجله نوبار. وعندما اكتشف القطن المصرى طويل التيلة (جوميل)، كان محمد على قد طور شبكة الرى وأطلق ثورة الرى الدائم, وهو ما سمح بتوسع سريع فى زراعته ومن ثم تصنيعه. وقد اتهم الجنرال الفرنسى بوالوكونت البريطانيين بخنق صناعة مصر الوليدة عن طريق تخريبها؛ حيث صدروا إلى مصر فيضا من الآلات الناقصة والمعيبة والمستهلكة، رغم دفع مقابلها نقداً وبأغلى الأسعار، وقد يفسر هذا ما رصده البعض من وجود آلات حديثة غير مستعملة.

ورابعا ـ أن الغرب قد نسب للمهندسين الفرنسيين فضل تحديث وتصنيع مصر. والأمر أن عددا من الفرنسيين تدافع على مصر بعد عام 1815، بحثاً عن عمل يتعيشون منه، ومنهم من كانوا يعملون فى الجيش من الموالين لنابليون بونابرت الذى أطيح بحكمه، والسان سيمونيين الذين يسعون لنشر فكرهم الاشتراكى. وقد استخدم هؤلاء فى إدارة وإنشاء المصانع وتدريب المصريين على استخدام التكنولوجيا الصناعية الحديثة. وقد رفض محمد على فى البداية أن يصدق أن المصريين يمكنهم أن يكونوا أى شيء إلا فلاحين أو عمالاً صناعيين؛ ومع ذلك فإن المصريين الذين كانوا يشغلون المراكز الثانية فى القيادة قد حلوا محل الأجانب فور تدريبهم، وأمر بإلحاق عدد من المصريين بمدرسة الهندسة، حيث تلقوا العلم على أيدى الأوروبيين، ثم أرسل عددا منهم إلى أوروبا لتعلم الميكانيكا. ورغم اعتراف القنصل البريطانى مورى بأن المصريين أظهروا صلاحية كبيرة فى كل الأعمال الميكانيكية، فقد زعم أن مصر ستربح بتدمير صناعتها واستيراد كل احتياجاتها الصناعية من أوروبا!! وقد استهزأ القنصل الفرنسى دروفيتى، بالمشروع الذى يريد أن يحول إلى الصناعة أمة تكمن مصالحها الأساسية فى الزراعة!! وزعم أنه من خلال التصنيع، إما أن ينتج الباشا منسوجات بصورة أكثر تكلفة من الأوروبية لأنه سيحتاج إلى خبراء أجانب، وإما أن يعتمد على الوطنيين، الذين زعم أنهم لن يصبحوا أبداً أكفاء للمنافسة الأوروبية. ورغم أن البضائع المصنعة فى مصر ربما كانت ذات جودة منخفضة مقارنة بالبريطانية والفرنسية - وهو أمر ليس مؤكداً- فإنها كانت تتمتع بأسواق ضخمة فى مصر وجوارها. وقد زعم القنصل البريطانى كامبل أن محمد على سوف يربح كثيراً بتدمير المصانع واستيراد كل المصنوعات من أوروبا، ويظهر دافعه من اعتراف القنصل البريطانى بورنج بأن الأقمشة القطنية المصرية قد سببت أضراراً للصادرات البريطانية. وبإيجاز، فإن زعم أن صناعة محمد على كان محكوما عليها بالفشل ليس سوى فرية أوروبية استعمارية. فتوافر الأموال لاستيراد السلع المصنعة يعنى توافر ما يخلق سوقا للصناعة المحلية. وقد تمكنت مصر من إعادة إنتاج الكثير من الآلات والمعدات فور استيرادها. ولم يحدث أبدا أن تقدم أحد بأرقام تؤيد زعم أن المصانع كانت تحقق خسائر. وفرية نقص الوقود تدحضها تجربة اليابان، بينما كانت مصر منتجا للخام الأساسى للصناعات النسجية. وقد تمتعت مصر بوفرة ورخص القوى العاملة، وأما العمال المهرة فإنهم لا يولدون وإنما يدربون، وهو ما تم فى عهد محمد على.

نقلا عن الاهرام القاهرية

المقال يعبّر عن رأي الكاتب وليس بالضرورة رأي الموقع

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

صعود وسقوط مشروع تصنيع مصر 4 صعود وسقوط مشروع تصنيع مصر 4



GMT 20:22 2023 الخميس ,19 تشرين الأول / أكتوبر

مليونية ضد التهجير

GMT 03:11 2023 الأربعاء ,21 حزيران / يونيو

الخالدون أم العظماء

GMT 04:43 2023 الإثنين ,19 حزيران / يونيو

كل سنة وأنت طيب يا بابا

GMT 04:15 2023 الأحد ,18 حزيران / يونيو

الزعامة والعقاب... في وستمنستر

GMT 03:32 2023 الأحد ,18 حزيران / يونيو

حدوتة مصرية فى «جدة»

اللون الأسود سيطر على إطلالات ياسمين صبري في عام 2024

القاهرة ـ مصر اليوم

GMT 09:42 2025 السبت ,04 كانون الثاني / يناير

أفكار هدايا لتقديمها لعشاق الموضة
  مصر اليوم - أفكار هدايا لتقديمها لعشاق الموضة

GMT 10:08 2025 السبت ,04 كانون الثاني / يناير

وجهات سياحية مناسبة للعائلات في بداية العام الجديد
  مصر اليوم - وجهات سياحية مناسبة للعائلات في بداية العام الجديد

GMT 09:50 2025 السبت ,04 كانون الثاني / يناير

نصائح بسيطة لإختيار إضاءة غرف المنزل
  مصر اليوم - نصائح بسيطة لإختيار إضاءة غرف المنزل

GMT 00:01 2025 الأحد ,05 كانون الثاني / يناير

"لطفي لبيب يودع الساحة الفنية ويعلن اعتزاله نهائيًا"
  مصر اليوم - لطفي لبيب يودع الساحة الفنية ويعلن اعتزاله نهائيًا

GMT 14:55 2021 الخميس ,04 شباط / فبراير

التفرد والعناد يؤديان حتماً إلى عواقب وخيمة

GMT 07:29 2020 الأربعاء ,17 حزيران / يونيو

ارمينيا بيليفيلد يصعد إلى الدوري الألماني

GMT 13:03 2017 الخميس ,07 كانون الأول / ديسمبر

"فولكس فاغن" تستعرض تفاصيل سيارتها الجديدة "بولو 6 "

GMT 18:07 2017 الأربعاء ,08 تشرين الثاني / نوفمبر

المنتخب الإيطالي يتأهب لاستغلال الفرصة الأخيرة

GMT 07:24 2024 الخميس ,19 أيلول / سبتمبر

دراسة توضح علاقة القهوة بأمراض القلب

GMT 22:13 2024 الجمعة ,07 حزيران / يونيو

بسبب خلل كيا تستدعي أكثر من 462 ألف سيارة

GMT 00:02 2023 الجمعة ,20 كانون الثاني / يناير

مبيعات فولكس فاغن تتجاوز نصف مليون سيارة في 2022

GMT 08:36 2021 الخميس ,07 تشرين الأول / أكتوبر

أيتن عامر تحذر من المسلسل الكوري «squid games»

GMT 20:44 2021 الأربعاء ,15 أيلول / سبتمبر

شيرين رضا تتعرض للخيانة الزوجية من صديقتها المقربة
 
Egypt-today

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

egypttoday egypttoday egypttoday egypttoday
Egypttoday Egypttoday Egypttoday
Egypttoday
بناية النخيل - رأس النبع _ خلف السفارة الفرنسية _بيروت - لبنان
Egypt, Lebanan, Lebanon