بقلم - د. طه عبد العليم
عرفت مصر بعض ملامح الدور التقدمى والثورى للرأسمالية فى تطوير قوى الانتاج مع التصنيع الرأسمالى الوطنى بفضل الدور الرائد لبنك مصر بقيادة طلعت حرب. وفى فترة ما بين الثورتين، أى ثورة 1919 وثورة 1952 انعكس التصنيع الرأسمالى الوطنى فى مؤشرات زيادة الاستثمار والانتاج فى الصناعة التحويلية والتعدين، وتطور استخدام ورصيد الآلات والطاقة الكهربائية المستخدمة فى المصانع, ونمو رؤوس أموال الشركات الصناعية المساهمة وحصة رأس المال الوطنى فيها، ونمو المدن والمراكز الصناعية وتأسيس جديد منها, وتزايد الوزن النسبى للسكان غير الزراعيين، وتقدم عمليات تركز الانتاج ورؤوس الأموال، ونمو أعداد المشتغلين فى مؤسسات الصناعة المصنعية.. الخ.
وأسجل أولا، أن أول المصانع الآلية الرأسمالية فى مصر قام برؤوس أموال أجنبية، مع مشاركة من جانب الفئة التجارية والمالية من أفراد الأقليات الأجنبية المقيمين فى مصر، وتركزت فى صناعات للسكر والخمور والبيرة والسجاير والزيوت والأسمنت وزيوت الطعام والورق والملابس. كما قامت وبمشاركة محدودة من جانب كبار الملاك المصريين صناعات تجهيز الحاصلات الزراعية, مثل حلج وكبس القطن وطحن الحبوب، وقامت ورش حكومية لاصلاح قاطرات وعربات السكك الحديدية وغيرها. لكنه حتى نهاية الحرب العالمية الأولى فى عام 1918، لم يكن فى مصر سوى 14 مصنعا آلياً كبيراً نسبياً، أنشئت ثمانية منها مع بداية القرن العشرين، واستخدمت خمسة منها فقط ما يزيد على 500 عامل . ورغم تعاظم الطلب على منتجات الصناعة فى مصر خلال سنوات الحرب العالمية الأولى، وخاصة طلب القوات البريطانية وقوات الحلفاء، فان صعوبات استيراد الآلات والمعدات فى ظروف الحرب حالت دون تأسيس مصانع جديدة.
وثانيا، أنه وبفضل التصنيع الرأسمالى الوطنى شهدت الصناعة المصرية الطور الأعلى التقدمى لتطور الرأسمالية الصناعية؛ أى قيام النظام المصنعى للرأسمالية, وكان ولوج هذا الطور البداية الفعلية للانقلاب الصناعى أو الثورة الصناعية فى مصر، وتلقت الصناعة الرأسمالية الحديثة دفعة كبرى فى فترة ما بعد نهاية الحرب العالمية الثانية. وقد بدأ الانقلاب الصناعى الرأسمالى فى مصر متأخرا, وتقدم ببطء انتصار النظام المصنعى للرأسمالية؛ مثلما جرى فى جميع المستعمرات والبلدان شبه المستعمرة والتابعة. وفى مصر- كما فى كل مكان- كان للانقلاب الصناعى الرأسمالى مقدماته ونتائجه. فقد استوجب تأسيس وتطور النظام المصنعى الحديث للانتاج الرأسمالى، توافر عناصره الرئيسية وهى: رأس المال للتمويل, والمنظمين المؤسسين للمشروعات, والآلات والتقنية الحديثة, وقوة العمل الصناعية الحرة, والسوق لبيع المنتجات المصنعة. وقد نهضت مجموعة بنك مصر بقيادة طلعت حرب بمهمتى تجميع رأس المال ومبادرة المنظم المؤسس، وبدأت عملية اقامة وتطوير الصناعة الآلية الرأسمالية الوطنية الكبيرة فى الفرع القيادى والرئيسى فى الصناعة التحويلية المصرية، أى صناعة غزل ونسج القطن.
وثالثا، أن ثورة 1919 التحررية الديمقراطية- بمحتواها الرأسمالى الوطنى المتصادم مع الاستعمار, ومضمونها الديموقراطى الدستورى المتصادم مع القصر- كانت بمثابة المقدمة السياسية للانقلاب الصناعى فى مصر. فقد تأسس بنك مصر فى عام 1920، وقام بالمهمة الرئيسية فى تعبئة وتوسيع القدرات المالية للرأسمالية الوطنية الصاعدة اللازمة للتأسيس الواسع نسبيا للصناعة الآلية الوطنية الكبيرة. فقد جذب البنك رؤوس الأموال النقدية المتراكمة لدى كبار ملاك الأرض من عوائد انتاج القطن وأرباح تصديره، ورؤوس الأموال النقدية المتراكمة لدى كبار التجار المصريين العاملين فى التجارة الخارجية، بالاضافة الى مدخرات كبار الموظفين وودائع صغار المدخرين من المواطنين المصريين. كما تطورت الصناعة الرأسمالية الكبيرة بمشاركة جزئية ولاحقة لرأس المال الأجنبى وخاصة المتمصر والمقيم. واعتمد تأسيس الصناعة الرأسمالية الكبيرة على استيراد الآلات والمعدات بالكامل, واستخدام المديرين المنظمين والعمال الفنيين من الأجانب المقيمين. وتوافرت قوة العمل اللازمة للصناعة الرأسمالية على الأجراء من الفلاحين والحرفيين، الذين تحولوا من عاملين لأنفسهم أو أصحاب أعمال صغار الى مجردين من الملكية وباحثين عن عمل لدى الغير. ورغم القيود المترتبة على ضعف القدرة الشرائية لغالبية المستهلكين من الفلاحين والعمال, فقد توسعت نسبيا السوق الداخلية اللازمة لتسويق منتجات الصناعة الرأسمالية المحلية الناشئة.
ورابعا، أن مراكز صناعية جديدة قد تطورت خارج القاهرة والاسكندرية قبل عام 1952، وأهمها المحلة الكبرى حيث أقيم أول المصانع الآلية المملوكة للرأسمالية الوطنية المصرية الكبيرة فى عام 1927. وفى عام 1952 قدمت مصانع شركة مصر للغزل والنسيج بالمحلة الكبرى حوالى 43 % من إجمالى إنتاج المنسوجات وحوالى 30% من إجمالى إنتاج الغزل فى مصر. وفى أواخر الثلاثينيات أقيم فى كفر الدوار تأسست صناعة الغزل والنسيج الرفيع للقطن، وبلدة البيضاء المجاورة لها صناعة تجهيز وتبييض وصباغة المنسوجات، وتطورت فى كفر الزيات صناعة الزيوت والصابون والأسمدة الفوسفاتية، ونشأت وتوسعت صناعة تكرير البترول وقامت صناعة الأسمدة الأزوتية فى السويس. كما ارتبط تطور الصناعة الآلية الرأسمالية الحديثة فى مصر بتطوير قاعدة الطاقة الحديثة اللازمة لاستخدام الآلات فى الصناعة. لكن إنتاج الصناعة المصرية المتواضع، الذى كان عقبة موضوعية أمام اقامة صناعة الآلات والمعدات وتطوير الصناعات الثقيلة المنتجة للسلع الوسيطة، واستمرار هزال صناعة التعدين, التى لم تعرف استخراج الحديد الخام رغم توافر مصادره وربحية استخراجه, وضعف كهربة البلاد, وارتفاع تكاليف الانتاج نتيجة الاعتماد على الآلات والمعدات المستوردة عالية السعر, كانت قيودا على استكمال عملية التصنيع. وبقيت العقبة الأهم هى القوى المسيطرة على اقتصاد البلاد، وصنع السياسة الاقتصادية، أقصد السيطرة الاستعمارية البريطانية، وكبار ملاك الأرض أشباه الاقطاعيين, والنخبة الرأسمالية المصرية الكبيرة متضاربة المصالح.
نقلا عن الاهرام القاهرية
المقال يعبّر عن رأي الكاتب وليس بالضرورة رأي الموقع