بقلم - د. طه عبد العليم
بدأت فى مصر خلال عشرينيات القرن الماضى محاولة طموح للتصنيع بقيادة طلعت حرب مؤسس بنك مصر، وهو أول بنك يضطلع بتمويله وإدارته بالكامل مواطنون مصريون. ولم يكن الهدف تأسيس بنك تجارى تقليدى، وإنما تصور طلعت حرب رائد التصنيع الرأسمالى الوطنى أن يكون مركزا لشركة قابضة كبرى مؤسسة لشركات صناعية، وموفرة للقروض، ومولدة القوة المحركة لقيام قطاع صناعى حديث ونهضة وطنية شاملة. ورغم مآثر طلعت حرب فى التصنيع فقد دخل مأزقا سببته ضغوط الاستعمار مع أدواته وحلفائه بجانب تضارب مصالح الرأسمالية المصرية الكبيرة داخل وخارج بنك مصر. ورغم انجازاته فإن طلعت حرب لم يتمكن مشروعه من بلوغ مستوى آماله فى إقامة قطاع صناعى حديث، يقلص التخلف والتبعية، وينهى وضع مصر كمزرعة قطن للصناعات النسجية البريطانية.
وبهدف التعلم الايجابى من تاريخ صعود وسقوط مشروعات تصنيع مصر فى العصر الحديث، وبعد مقالات تناولت فيها مشروع محمد على، وفى ذات سياق القراءة الموضوعية النقدية للتاريخ، أتناول فى عدد من المقالات مشروع التصنيع الرأسمالى الوطنى بقيادة طلعت حرب، بدءا من أهم ما أبرزه ووثقه إريك دافيز فى كتابه- الرائد والمهم- المعنون: مأزق البرجوازية الوطنية الصناعية فى العالم الثالث- تجربة بنك مصر 1920 – 1941.
وأسجل: أولا، أن إريك دافيز يطرح فى مقدمة كتابه أربعة أسئلة تاريخية ونظرية: الأول، ما هى القوى الاجتماعية التى كانت وراء تأسيس بنك مصر، ولماذا تأسس فى تلك اللحظة الزمنية بعينها؟ والثانى، لماذا مر البنك بفترة من النمو الاقتصادى السريع، ثم واجه انهيارا مالياً فى آخر الأمر؟ والثالث، إلى أى مدى يمكن لعملية تصنيع- يتم تمويلها وإدارتها محلياً- أن تنجح، إذا ما تحدت رأس المال الأجنبى وسعت لأن تكون مستقلة عنه؟ وهل من المحتم أن تضطر المجموعات الوطنية، التى تحاول نشر التصنيع فى البلدان المتخلفة، إلى مشاركة رأس المال الأجنبى فى مؤسساتها فى آخر الأمر؟ والرابع، كيف تشكلت الرأسمالية الصناعية الوطنية، وما هو تركيبها الاجتماعى؟ وما هى الأوضاع التى تؤثر على تماسكها السياسى، وما تأثير هذا التماسك أو عدمه على عملية التصنيع؟ وفى الاجابة عن أسئلته يستخدم الاقتصاد السياسى، الذى يراه وبحق، أكثر المناهج شمولاً وعضوية لدراسة تاريخ وعملية التصنيع فى مصر .
وثانيا، أن الفكر الاشتراكى قد انطلق فى رؤيته لدور الرأسمالية الوطنية فى تصنيع البلدان التابعة المتخلفة من فرضيتين، واحدة متفائلة وأخرى متشائمة. وترى الفرضية المتفائلة، أن البلد الأكثر تطوراً من الناحية الصناعية يبين للبلد الأقل تطوراً الصورة التى سيكون عليه فى المستقبل، وأن الرأسماليين الوطنيين سيسعون إلى الوقوف فى وجه الهيمنة الاقتصادية الأجنبية، وأن العلاقة بين الرأسمالية الأجنبية والرأسمالية المحلية هى فى جوهرها علاقة تناقض. بينما ترى الفرضية المتشائمة أن تغلغل رأس المال الأجنبى يؤدى إلى تدهور اجتماعى واقتصادى بدلاً من تمهيد الأرض لتطور الرأسمالية، وينحاز الى الفرضية المتشائمة أصحاب نظرية التخلف والتبعية أو المركز والهامش، الذين يؤكدون أنه لا يتطور لدى الطبقات المحلية الحاكمة تناقض مع رأس المال الأجنبى؛ حيث تستفيد من عملية الاستيلاء على الفائض، وتعمل على استغلال مجتمعاتها من موقع الشريك الصغير لرأس المال الأجنبى.
وثالثا، أن تأسيس بنك مصر وشركاته الصناعية ــ كما يخلص إريك دافيز ــ يلقى بالشك على نموذج التبعية، حيث إنه ينفى فكرة انسجام المصالح بين الرأسمالية المحلية فى (الهامش) والرأسمالية الأجنبية فى (المركز)، وفضلاً عن ذلك، فإنه لا يمكن إنكار أن بنك مصر قد أرسى فى العشرينيات والثلاثينيات أسس قطاع صناعى فى الاقتصاد المصرى. وقد تحدى بنك مصر سياسة الاحتلال البريطانى المعادية والمعرقلة لتصنيع مصر، ولعب دوراً محورياً فى تشجيع الدولة على الاضطلاع بدور نشط فى تشجيع وحماية الصناعة الوطنية؛ ومن ثم حفز التنمية الاقتصادية. ولم يكن تأثير البنك مقصورا على تأسيس وتمويل الشركات التابعة له وأهمها العاملة فى الصناعات القطنية، وعبر عن مشاعر إحياء وطنى مصرى سجلتها القصائد التى كتبها أمير الشعراء أحمد شوقى فى مديح البنك، ومد أنشطته فى أنحاء العالم العربى، فكان أول شركة عربية متعددة الجنسيات. ورغم عداء مجموعة شركات بنك مصر لرأس المال الأجنبى، فإن الرأسماليين الأجانب المستثمرين فى مصر، قد تجاهلوه إلى حد كبير خلال العشرينيات، على حين اشترك بعضهم بنشاط فى التصنيع المصرى خلال الثلاثينيات.
ورابعا، أن قصور نموذج التبعية يتوازى مع قصور فكرة أن المسار التاريخى لمصر وغيرها من البلدان المتخلفة التابعة سيتبع مسار تطور الرأسمالية فى الغرب. وحالة مصر لا تؤكد فرضية انسجام المصالح المستمر بين الطبقات الحاكمة فى المركز والهامش، لكنها لا تؤيد أيضاً فرضية أن هناك تناقضاً لا حل له بين رأس المال الوطنى ورأس المال الأجنبى. وخلال الثلاثينيات، هدأت حدة التناقض الذى كان قائماً خلال العشرينيات وأوائل فترة الكساد العالمى العظيم بين رأس المال المحلى الملتزم بالتصنيع وبين رأس المال الأجنبى. وخلال الثلاثينيات كانت المشروعات التى نشطها رأس المال الأجنبى تهدف إلى خدمة مصالحه، ولم تدفع نحو بناء اقتصاد متوازن فى مصر، لكنها لم تكبح التطور الصناعى المصرى. لكن فشل بنك مصر فى توطيد أقدامه كمؤسسة قابلة للحياة ومستقلة عن السيطرة الأجنبية، وإخفاقه فى خلق قطاع صناعى قادر على الاستمرار بالاعتماد على نفسه.
وخامسا، أن العناصر الوطنية داخل مجموعة بنك مصر اضطرت للمشاركة مع رأس المال الأجنبى فى أواخر الثلاثينيات، ووفر هذا قوة دفع داخلها لقسم من الرأسمالية المصرية ارتبطت مصالحه برأس المال الأجنبى، ولم يشعر بالتزام كبير إزاء مشروع التصنيع. ثم واجه البنك أزمة مالية فى عام 1939، وكان يمكن تخطيها لولا تآمر الاستعمار وأدواته وحلفائه، وجاءت موافقة الحكومة المصرية على دعم البنك فى عام 1941، مشروطة بعدم إقامته مشروعات صناعية جديدة، وإقالة طلعت حرب. وللحديث بقية.
نقلا عن الاهرام القاهرية
المقال يعبّر عن رأي الكاتب وليس بالضرورة رأي الموقع