بقلم - د. طه عبد العليم
ارتبط الحكم الاستعمارى فى مصر ـ كما فى غيرها من البلدان المستعمرة وشبه المستعمرة- باقتصاد يعتمد على إنتاج عدد محدود من المنتجات الأولية، وارتبطت الدعوة الوطنية إلى التصنيع بالرغبة فى تقليص الاعتماد على استيراد السلع المصنعة من البلدان الاستعمارية, ولذلك كانت عملية التصنيع فى الغالب جزءا من حركة وطنية أوسع نطاقا. وقد استهدف بنك مصر بقيادة طلعت حرب- مهندس سياسته للتصنيع- التقليل من اعتماد مصر اقتصاديا على انتاج وتصدير القطن طويل التيلة بإقامة قطاع صناعى رأسمالى وطنى كبير وحديث، فبدأت مصر محاولة طموحا للتصنيع وخاصة فى صناعات الغزل والنسيج بقيادة أول بنك تجارى اضطلع بتمويله وإدارته بالكامل مواطنون مصريون.
وأسجل، أولا، أنه لا يمكن لأى تقويم لتأسيس وتطوير بنك مصر تجاهل دور طلعت حرب, الذى لولاه لما تأسس البنك فى عام 1920. ويتطلب هذا تحديد القوى السياسية والاجتماعية التى كونت مجموعة بنك مصر، وفى مقدمتها أعيان الريف من كبار ملاك الأرض. والأمر أنه بتأسيس بنك مصر فى عام 1920 بلغت القوى الاجتماعية والسياسية التى تبلورت خلال القرن 19 ذروتها، حيث كان لاندماج مصر فى السوق العالمية بفضل زراعة القطن طويل التيلة، نتائج أهمها ما تحقق من تراكم رأسمالى كبير لدى شريحة من أعيان الريف. وقد أكمل الاحتلال البريطانى العملية التى بدأها محمد على باشا بتحويل نظام رى الحياض إلى رى دائم، بتنفيذ مشروعات رى مثل توسيع القناطر الخيرية وبناء خزان أسوان وقناطر أسيوط. وسعت الإدارة الاستعمارية لإرضاء أهم عنصر اجتماعى فى الريف، وهم كبار الملاك الوطنيين. ولم يعد الأمر مقصورا الآن على إمكان زراعة القطن فى أنحاء دلتا النيل وجنوبا حتى شمالى مديرية أسيوط، بل صار من الممكن أيضاً زراعته أكثر من موسم، وبجانب التوسع فى إنتاج القطن أدى تحسين نظام الرى إلى زيادة ملحوظة فى إنتاجية القطن وخاصة فى أراضى أعيان الريف وكبار الملاك. وثانيا، أن فترة حكم محمد على شهدت تغيرات مهمة فى البنية الاجتماعية المصرية، وهى التغيرات التى كان لها مضاعفات مهمة بالنسبة لتطور النزعة الوطنية الاقتصادية، وتأسيس بنك مصر فى أوائل القرن العشرين. وفى المجلس العالى، الذى شكله محمد على عام 1828، يتضح النفوذ المتزايد لأعيان الريف، حيث ضم المجلس ممثلين لعائلات أعيان الريف، وأتاح إنشاء مجلس شورى النواب عام 1866 وجود بؤرة للتعبير عن المصالح الطبقية لأعيان الريف أن ثمانية وخمسين من بين المندوبين الريفيين كانوا مسجلين على أنهم عمد، وكان المندوبون الإثنا عشر الباقون كلهم تقريباً ينتمون إلى عائلات أعيان معروفة فى مناطقهم، مثل أحمد أفندى أباظة. وساعد الاندماج بين الأتراك- الشركس وأعيان الريف على تقوية البورجوازية الريفية الناشئة فى مصر، حيث أصبح الوعى الطبقى يتواجد فى طبقة اجتماعية أكثر قوة. زاد المندوبون من سلطتهم الاقتصادية والسياسية, وبدأوا يحملون لقبى بك وباشا الأعلى من حيث المكانة. وعلى حين أن نسبة الأعيان الذين كانوا يحملون لقب بك عام 1866 كانت 4 فى المائة فقط فإنها قد وصلت إلى 66 فى المائة عام 1914، وبينما لم يحمل أى مندوب ريفى لقب باشا قبل عام 1881، كان 11 من المندوبين الريفيين يحملون هذا اللقب بحلول عام 1914. وأدى امتلاك كثير من عائلات أعيان الريف لمساحات كبيرة من الأرض، إلى جانب ألقاب الوجاهة الاجتماعية، إلى تجانس طبقة كبار الملاك فى مصر، إلى الحد الذى يجعل من الممكن الحديث عن بورجوازية زراعية واعية مصالحها السياسية والاقتصادية. وثالثا، أن التوسع فى زراعة القطن الطويل التيلة فى مصر قد أتاح لأعيان الريف إمكانية أكبر لتحقيق التراكم الرأسمالى. وهكذا، بدلاً من أن يقوم التصنيع المصرى على ما يسمى بالطبقة الوسطى الجديدة، فإنه قام بمساندة من طبقة كانت تمثل فى القرن التاسع عشر حجر الزاوية للمجتمع ما قبل الرأسمالى. وعندما تم بيع أراضى الدولة لتصفية الديون الأجنبية تبين أن ممتلكات الذوات (الأتراك الشركس) كانت أكبر من ممتلكات الأعيان، حتى زاد الأعيان من ممتلكاتهم بصورة كبيرة عقب الحكم الاستعمارى البريطانى، وكانت الملكية شرطاً أساسياً للصعود السياسى على المستوى الوطنى. وقد برز أعيان الريف بعد ذلك فى الحركة الوطنية المصرية وفى مساندة بنك مصر، وكانت عائلة شعراوى من أقوى عائلات الأعيان التى استثمرت فى مجموعة شركات بنك مصر، كما ساندت بنك مصرى عائلات البدو فى مصر العليا، مثل عائلة لملوم بمديرية المنيا، وعائلة الباسل بالفيوم.
ورابعا، أن الفترة فيما بين عامى 1882 و 1920 كانت فترة تغيير اجتماعى عميق، وشهدت نضج فكرة إنشاء بنك وطنى يضطلع المصريون بتمويله وإدارته، لكى يقدم القروض ويرعى المشروعات الصناعية. كما تبين أن تخصص مصر كمزرعة للقطن الخام قد ترتب عليه تبادل غير متكافئ للقطن الخام الرخيص نسبياً بالمنسوجات القطنية وغيرها من السلع المصنعة. وفى هذا السياق، كتب أحمد لطفى السيد مقالا بعنوان الحالة الحاضرة, نشره فى 18 مايو 1908 يقول: إننى أشعر أن امتناع المصريين عن محاكاة الأجانب فى فتح البنوك وتكوين الشركات الأجنبية يبتعد بهم عن تحقيق الاستقلال الحقيقى، وأن أزمة مصر المالية قد نجمت عن الشركات الأجنبية التى كان رأسمالها فى جانبه الأكبر يتسم بطابع المضاربة، ولو كان لدى أهل البلاد بنوك وطنية لما كان بمقدور الشركات أن تهزأ بحقوق المساهمين، ولما امتدت الأزمة (1907) حتى الآن. وكان مدهشاً أن أكثر من 27 فى المائة من إجمالى رأس مال بنك مصر قد جاء من مجموعة من كبار ملاك الأرض فى مديرية المنيا، وهى المجموعة التى التفت حول طلعت حرب، الذى امتلك عزبة أو مزرعة هناك فضلاً عن أنشطته التجارية.
ومن المفارقات أن كل العوامل الرئيسية التى لعبت, فى وقت ما الدور الأساسى فى تشجيع التصنيع المصرى هى التى قادت إلى مأزق مشروع التصنيع الرأسمالى الوطنى الذى وفرت ثورة 1919 قوة الدفع الوطنية اللازمة لانطلاقه. وهو ما يستحق مقالا لاحقا.
نقلا عن الاهرام القاهرية
المقال يعبّر عن رأي الكاتب وليس بالضرورة رأي الموقع