بقلم - د. طه عبد العليم
انطلق أول مشروع لتصنيع مصر الحديثة فى عهد محمد على من هدفه الثابت وهو انتزاع استقلاله بمصر من براثن الامبراطورية العثمانية. وتسجل عفاف مارسو فى كتابها البحثى الرصين (مصر فى عهد محمد على) أنه استجابة لاحتياجات تأسيس الاسطول والجيش اللازمين لحملات وتوسعات محمد على فى محيط مصر الاقليمى، والتى مثلت سبيله الى بلوغ هدفه. وقد بدأ التصنيع بتأسيس صناعة السفن الحربية، حين أظهر الغزو البريطانى عام 1807 عدم حصانة خط السواحل المصرية، ودفع محمد على إلى تطوير سلاح بحرى، قبل أن تجبره الحرب فى الحجاز على توسيع أسطوله، بدءا من أسطول البحر الأحمر عام 1809. فقد حتمت حملة الحجاز إنشاء مصانع الذخائر والبارود والأسلحة، واستهدفت حملة السودان ضمن ما استهدفت البحث عما يكون فيها من معادن، وأدت حملة المورة بدورها إلى زيادة فى بناء السفن. وحين تسربت إلى الباب العالى أنباء تأسيس أولى المصانع المصرية فى عام 1810، بعث بفرمان يحذر فيه الوالى من أن إنشاء هذه المصانع ممنوع لأن العثمانيين يحتكرونها. لكن محمد على لم يذعن وأنشأ المزيد من المصانع وقام بتوسيعها، وفى عام 1815 أقام مصنعا للبارود فى جزيرة الروضة وأنشأ مسبكا للمدافع فى القلعة، وتم إنشاء مجموعة متكاملة من الصناعات الجديدة المرتبطة بالجيش، تشكل مثالاً نموذجياً لمجمع صناعى حربى، يضم ترسانات وأحواضاً لبناء السفن ومصانع ومستشفيات ومدارس. وفى البدء كانت الذخائر تشترى من الخارج، وحين رفضت الدول الأوروبية بيع الأسلحة لمحمد على، كانت المدافع والبنادق ومدافع الميدان والقذائف يتم نسخها على الفور.
وفى عام 1829 كان بناء السفن يتم فى ترسانتين رئيسيتين: أولاهما وأقدمهما كانت فى بولاق، والثانية أكبر وأحدث فى الإسكندرية، وهى التى تم توسيعها لبناء أسطول بأكمله يعوض الأسطول الذى ضاع فى موقعة نوارين. وصار يمكن للمؤسسة العسكرية أن تلجأ إلى مجمع صناعات فى القلعة كان ينتج المدافع وصار نواة لصناعة ثقيلة، ومصانع للبنادق، ومصنع للذخائر لإنتاج قذائف المدفعية والبارود وطلقات الرصاص.. إلخ. وأقيمت سبعة مصانع للبارود فى أجزاء مختلفة من مصر، وأنتجت بحيرات وادى النطرون مواد كيمائية عالية الجودة بسهولة. وكان المجمع الصناعى الحربى الثانى هو ترسانة بولاق، التى أنتجت الأسلحة الصغيرة وسبائك المدافع والبطانات النحاسية للسفن. وفى عام 1831 أنشئت مدرسة للخيالة والمدفعية والمشاة والعلوم البحرية. وتم إنشاء مدارس فنية للذخائر الحربية والتعدين والهندسة والكيمياء التطبيقية والطب والصيدلة والطب البيطرى وغيرها.
وقد بدأ إنشاء الصناعات غير الحربية بمصنع للصابون، ارتبط بمشروع زراعى كبير لزراعة أشجار الزيتون تم تزويدها بألف ساقية، وبنيت معاصر لاستخراج الزيت واستخدام جزء منه فى صناعة الصابون. وشملت المنطقة زراعة أشجار التوت وتربية دودة الحرير، وأقيمت مصانع لنسج الحرير. وفى عام 1815، قام مصرى هو حسين شلبى عجوة باختراع آلة لضرب الأرز بسطت كثيراً من هذه العملية، فتأثر الوالى وقال: يبدو أن لدى المصريين استعداداً للعلوم. وأمر محمد على بأن يجمع عدد من المصريين وبعض من مماليكه فى مدرسة المهندسخانة، وهناك تلقوا العلم على أيدى عدد من الأوروبيين، وفى عام 1828 أرسل عشرة مصريين إلى أوروبا لتعلم الميكانيكا. وسجل أحد القناصل الأوروبيين أن محمد على أراد أن ينشئ مصانع فى بلده حتى يتمكن ذات يوم من أن يستغنى عن المنتجات الأجنبية. والأمر أن انهيار المصانع المصرية تحت وطأة المنافسة البريطانية قد أظهر لمحمد على الحاجة إلى إعادة تنظيم إنتاج المنسوجات وإلى فرض حظر على المنسوجات البريطانية لمنعها من غمر السوق أو إغراقها بأقمشة البريطانيين الرخيصة.
ولم تأت القوة الدافعة لتصنيع القطن عقب اكتشاف القطن طويل التيلة، وإنما قبل ذلك. فبين عام 1817 وعام 1821 أقيم 33% من وحدات آلات التمشيط، و 70% من الأنوال و 24% من المغازل. وبعد أن اكتشف القطن طويل التيلة أضيفت أنوال تم إعدادها لهذا القطن وارتفع عدد وحدات السحب ووحدات التمشيط، وتضاعفت معامل تبييض الأقمشة. وأقيمت مؤسسات الصناعات القطنية الأولى وقد أنشئت فى الدلتا حيث كان القطن يزرع بصورة عامة، وابتداءً من عام 1827 أنشئت 9 مصانع فى مصر الوسطى ومصر السفلى. وقدر أن هذه المصانع استهلكت عام 1830 نحو ربع محصول القطن المصرى. وعندما جاء الوقت الذى اكتشف فيه القطن طويل التيلة كانت شبكة الرى قد نظمت بالفعل, وسمحت بالتوسع السريع فى المحصول الجديد.
وكانت صناعة النسيج المصرية محمية من خلال الحظر الذى فرضته الحكومة فى حربها ضد استيراد المنسوجات البريطانية الرخيصة التى أغرقت السوق ونافست الأنواع المصرية، وسرعان ما اكتسحت المنسوجات القطنية المصرية السوق المحلية، وصدرت الى المناطق التى صارت جزءا من الامبراطورية المصرية. واستورد محمد على التكنولوجيا الجديدة للمغازل التى تدار بالطاقة. وجاء التوسع فى المنسوجات القطنية فى وقت حدوث توسع مشابه فى انجلترا، حيث تفجرت الثورة الصناعية على أساسها. وكانت التكنولوجيا آنذاك بسيطة ويمكن نسخها بسهولة واستخدامها بواسطة عمال غير شديدى المهارة. وكانت فرنسا وبريطانيا تستخدمان تعريفات حمائية لإعانة صناعاتيهما الوليدتين، وهى حقيقة أدركها محمد على، ونقلها، بأن قام بفرض إجراءات حظر لإبقاء صناعاته قادرة على المنافسة. وعلى العكس من بريطانيا التى لم تكن تملك المادة الخام، كانت مصر تملكها، مع عمالة رخيصة وسوق مقيدة.
وفى عام 1838 اعترف القنصل البريطانى جون بورنج بأن بعض مصانع الباشا ذات أثر ضار على مبيعات المصنوعات القطنية الانجليزية. وكان الرد الفورى الغاضب هو الهجوم على سياسة التصنيع باعتبارها جالبة للخراب على مصر. وبفرض معاهدة 1840 توقفت كل الصناعات الحربية عندما أنقص الجيش المصرى إلى ثمانية عشر ألف رجل. وتحقق لبريطانيا ما تريده حين صارت تحت الاحتلال مزرعة قطن للمصانع الانجليزية، حتى كان مشروع طلعت حرب لتصنيع مصر بدءا من تأسيس الصناعات القطنية المصرية.
نقلا عن الاهرام القاهرية
المقال يعبّر عن رأي الكاتب وليس بالضرورة رأي الموقع