بقلم - طه عبد العليم
لم أتخل يوما عن موقفى الموضوعى النقدى المنطلق من التفكير فى المصلحة الوطنية المصرية: طالبا وباحثا وإعلاميا، وكان هذا موقفى الثابت فى فترات عملى السياسى العابر، الذى غلب عليه دوما طابع الهواة، وبرأ دوما من داء السياسة المحترفين، ورغم مرورى العابر بكافة التيارات الفكرية عدا تيار الفاشية التكفيرية!! ومن منطلق التفكير فى المصلحة الوطنية المصرية، أعلنت باستقامة فى 5 يناير 2014 بجريدة الأهرام، تأييدى للسيسى رئيسا لمصر قبل ستة أشهر من ترشحه، بعد أن قدم أهم أوراق اعتماد ترشحه، باستجابته الوطنية والجسورة والتاريخية لإرادة الأمة المصرية فى ثورة 30 يونيو، التى أسقطت بفضل وحدة شعبها وجيشها حكم الفاشية التكفيرية التى هددت وجود مصر: دولة وأمة ووطنا وهوية.
ولست من الدائرة المحيطة بالرئيس السيسى أو المقربة منه؛ بل ولم أقابله قط، وفقط من منطلق التفكير فى المصلحة الوطنية المصرية أعطيت صوتى للرئيس السيسى ليقود مصر فى فترة رئاسته الثانية نحو مواجهة تحديات المهام الملحة أمام الأمة المصرية، التى أوجزت ما اعتبرته أهمها فى مقالى السابق، بعد أن برهن فى فترة رئاسته الأولى على قدرته على مواجهة خطر الارهاب وتحدى الإعمار. وبين تلك المهام أبرزت فى مقالى السابق تحدى تصنيع مصر؛ اقتناعا بحقيقة أكدتها مرارا طوال السنوات الماضية، وهى: أنه لا تنمية اقتصادية حقيقية بغير التصنيع؛ كما تؤكد تقارير منظمة الأمم المتحدة للتنمية الصناعية (اليونيدو)، استنادا الى دراسات مُعتَبَرة ومؤشرات مقارنة. وأسجل، أولا، أنه رغم العقبات الداخلية الظاهرة وتحديات العولمة القاهرة, فإن قدرات مصر الكامنة تسمح لها دون ريب بانجاز التصنيع وبلوغ ما تستحقه: أن تصبح دولة صناعية متقدمة! لكن هذا يستحيل بدون إستراتيجية للتصنيع؛ أى تبنى سياسات اقتصادية وصناعية تضمن أسبقية تنمية وتحديث وتعميق وتنويع الصناعة التحويلية؛ خاصة فروعها القيادية سواء منخفضة أو متوسطة أو راقية التكنولوجيا. ولا جدال أن الرئيس السيسي- ومعه الأمة المصرية- يتطلع الى كسب حماسة الشباب الهائلة فى عملية البناء وتحقيق تطلعاتهم المشروعة الى حياة كريمة. والسبيل واضح، وهو التصنيع، لأن الصناعة التحويلية - بتعريفها الواسع الشامل لقطاع الخدمات المتنامى فى عصر المعرفة والمرتبطة بالتصنيع- قد وفرت واحدة من بين كل ست فرص عمل على الصعيد العالمى، بل ومع كل فرصة عمل يتم إيجادها فى الصناعة التحويلية تُخلَق فرصتى عمل أو ثلاثا خارجها، ولأن أثر التصنيع لا يقتصر على مضاعفة فرص العمل؛ وإنما يعزز نوعيتها وانتاجيتها ودخلها.
وثانيا، أن مصر، قد واجهت- شأن غيرها من البلدان النامية التى نجحت فى التصنيع- تحدى تعيين نقطة انطلاق إستراتيجية التصنيع بالمفاضلة بين أولويات: إقامة البنية الأساسية، أو تطوير صناعات التصدير، أو إنشاء الصناعات الخفيفة الصغيرة والمتوسطة، أو تطوير الصناعات الأكثر رشادة من منظور مدى توافر الخامات والخبرة والسوق من أجل تحقيق التراكم المالى الضرورى وإعداد الكوادر، أو بناء الصناعة الثقيلة وخاصة صناعة بناء الآلات. وتكشف الخبرة التاريخية أنه قد جرى المزج بين هذه البدائل بنسب تباينت من بلد لآخر، ولكن بقيت صناعة بناء الآلات والمعدات والأجهزة الأساس الضرورى لإعادة بناء مجمل الاقتصاد ليصبح اقتصادا صناعيا متقدما. وأظن أن الواقع قد حسم نقطة انطلاق إستراتيجية تصنيع مصر، من جهة، لأن مصر قد استثمرت قسما مهما من مدخراتها واستثماراتها فى اقامة مشروعات عملاقة للبنية الأساسية خاصة فى قطاعات الطاقة والنقل والمواصلات تمثل رافعة جبارة لانطلاق التصنيع، ومن جهة ثانية، لأن مصر تمتلك قاعدة صناعية متنوعة - مادية ومعرفية - يمكن البناء عليها للارتقاء بطوابق التصنيع فى القطاعين العام والخاص، وخاصة فى الصناعات المعدنية والبتروكيماوية والنسجية والغذائية بل وصناعة الآلات والمعدات ووسائل النقل والمواصلات والأجهزة، أى الفروع الصناعية التى تتمتع بعلاقات تشابك أمامية وخلفية مع غيرها من قطاعات الاقتصاد المصرى المتنوعة.
وثالثا، أن تسريع التنمية الاقتصادية وتجاوز التخلف والتبعية يرتهن بتبنى استراتيجية للتصنيع تستهدف تعديل بنية الاقتصاد، بإقامة اقتصاد صناعى يرتكز الى تطوير مجمل الفروع الصناعية وبالذات الفروع القيادية، التى تحقق التقدم التكنولوجى وترفع إنتاجية العمل فى مجمل الاقتصاد. ولا يتحقق التصنيع بمجرد إقامة مشروعات صناعية وإنما بتبنى الدولة سياسات صناعية تستهدف إعادة بناء مجمل قطاعات الاقتصاد على أساس الأساليب الصناعية الأحدث للإنتاج، وتنطلق من رؤية متكاملة تحفز وترتقى بعناصر عملية التصنيع, أى: رأس المال اللازم للاستثمار والتمويل, ونخبة المنظمين, وقوة العمل المتعلمة والماهرة والمدربة, وتطوير قاعدة الطاقة اللازمة للصناعة، وتطوير صناعة البناء، وإقامة المشروعات الرئيسية للبنية التحتية الإنتاجية والاجتماعية, وتوسيع فرص نقل مواد ومعارف التكنولوجيا, وتعظيم السوق الداخلية والخارجية لمنتجات ومدخلات الصناعة.. الخ. كما يتطلب التصنيع مواجهة أسباب ضعف انتاجية العمل فى الصناعة التحويلية المصرية، وأهمها: ضعف التعليم الأساسى، وقصور التدريب المهنى، وضعف مستويات الأجور، وهجرة العمالة المدرية والفنية، وارتفاع تكاليف الانتاج، ونقص الخامات والمستلزمات، ونقص التمويل الذاتى، وارتفاع تكلفة الاقتراض، وقصور الخدمات الإنتاجية، وانخفاض جودة المنتجات، واشتداد المنافسة الاجنبية.. إلخ. كما يتطلب التصنيع فى ظل اقتصاد المعرفة تحسين جودة التعليم والتدريب المهنى والارتقاء بالبحث والتطوير وانتاج المعرفة والتقنية وهو ما يرتقى بالمحتوى المعرفى ومن ثم القيمة المضافة للإنتاج الصناعى.
وأختم فأقول- بجانب قيادته محاربة الإرهاب ومضاعفة العمران وهما مقدمتان لا غنى عنهما لبناء المستقبل- قد أعطيت صوتى للرئيس السيسى لأننى أثق فى قدرته على قيادة الأمة المصرية فى مواجهة تحدى تصنيع مصر، إذا اقتنع به والحلقة المحيطة به من دوائر صناع ومتخذى القرار. والأمر، ببساطة أن حسم خيار التصنيع- كما تكشف خبرة مصر والعالم- يتوقف على أن يتحرر صانعو القرار وقادة الفكر السياسى الاقتصادى من أسر النظريات المُشكِكة فى إمكانية تصنيع مصر أو المُضيِقة لحدوده، أو المُتوهِمة عجز مصر عن خوض مُعتركِه!.
نقلا عن الاهرام القاهرية
المقال يعبّر عن رأي الكاتب وليس بالضرورة رأي الموقع