تواجه الأمة المصرية تحديات جساما- داخلية وخارجية- تعين المهام الملحة أمامها بدءا من الولاية الثانية المرتقبة للرئيس عبد الفتاح السيسى. وأوجز هنا سبعة تحديات مترابطة، أرى فى مواجهتها أعمدة الحكمة السبعة، وهى تحديات: الارتقاء بالتصنيع، وتطوير التعليم، وخلق الوظائف، وضبط الانفجار السكانى، وتحقيق الأمن المائى والغذائى، وتحقيق الكفاءة والعدالة، ومحاربة الفكر التكفيرى.
وأسجل أولا، أن التصنيع- باعتباره تنمية وتعميق وتحديث الصناعة التحويلية- هو المحرك الرئيسى للتنمية الاقتصادية والشاملة والمستدامة. وهو ركيزة الأمن- القومى والإنسانى- لأن كرامة المصريين لن تصان ولن تتحسن نوعية حياتهم ولن تتوافر لهم فرص عمل عالية الانتاجية والدخل بلا حدود. كما لن تَسترد مصر ريادتها المستحقة وتُحتَرم إرادتها بغير تعظيم قوتها الصناعية والتكنولوجية والإنتاجية ومن ثم الشاملة. ولن يتحرر اقتصاد مصر من اختلالات موازنة الدولة والميزان التجارى وعبء المديونية، بغير تحول مصر دولة صناعية. وتتوقف الجدوى الاقتصادية لمضاعفة عمران مصر على مراعاة التناسب بين الاستثمار فى البنية الأساسية والاستثمار الانتاجى، وخاصة الصناعى. وعلى الدولة أن تنهض بأدوارها: بتبنى استراتيجية للتصنيع وسياسات صناعية، تزيح العقبات أمام التصنيع، وتصحح إخفاقات السوق، وتوفر العمالة المتعلمة والماهرة، وتضاعف الاستثمار فى البحث العلمى والتكنولوجى والابتكار والبحث والتطوير والتدريب، وتقلص تكلفة المستلزمات والأرض للصناعة، وتوفر الحماية التجارية والائتمان بتكلفة معقولة، وتدعم الصادرات، وتضبط سعر الصرف، وتقدم الدعم المباشر والحوافز الضريبية.. إلخ.
وأُسَلِم، ثانيا، أن نقص الموارد يمكن أن يعوق توفير الحق الدستورى فى التعليم. وعلى الدولة أن توفر الموارد اللازمة للارتقاء بنوعية التعليم، فلا تعليم مجانى، لكن عليها فى ذات الوقت أن تلتزم بمبدأين أقرتهما منظمة اليونسكو بشأن الحق فى التعليم للجميع، وهما: العدالة، بألا يكون للفقر وأى سبب آخر عقبة أمام التمتع بالحق فى التعليم، والكفاءة، بأن يتاح التعليم لأعلى مستوياته لكل قادر على تلبية استحقاقاته العلمية. ولنتذكر أن كل بلدان العالم من حولنا، التى خرجت من الحلقة المفرغة للفقر والجهل الى الآفاق الرحبة للثروة والعلم، لم تحقق قفزتها بغير إعطاء الأسبقية للانفاق على التعليم. فهو الذى يوفر قوة العمل المؤهلة والجاذبة للاستثمار الصناعى، بينما يوفر التصنيع الموارد اللازمة للارتقاء بنوعية التعليم.
وأبرز، ثالثا، حقيقة أنه لا فرص عمل ولا تنمية اقتصادية بغير التصنيع؛ كما تؤكد تقارير منظمة الأمم المتحدة للتنمية الصناعية (اليونيدو)، استنادا الى دراسات مُعتَبَرة ومؤشرات مقارنة. ووفقا لليونيدو فان الصناعة التحويلية- بتعريفها الواسع الشامل للخدمات المرتبطة بالتصنيع- قد وفرت واحدة من بين كل ست فرص عمل على الصعيد العالمى فى عام 2009. ومع كل فرصة عمل يتم إيجادها فى الصناعة التحويلية تُخلَق فرصتـى عمل أو ثلاثا خارجها، ولا يقتصر أثر التصنيع على مضاعفة فرص العمل وإنما يعزز نوعيتها وانتاجيتها ودخلها.
وأشدد، رابعا، ومعترفا بأن التصنيع برفعه تطلعات السكان يوفر أهم الحوافز لضبط النسل، على ما أعلنه جمال حمدان يقول باستقامة؛ قبل أكثر من ثلاثين عاما: إن المشكلة السكانية تكمن وراء الانحدار فى كل شىء, ابتداء من الغذاء الى جودة الصناعة ونوعية الإنتاج الى مستوى الخدمات والأداء والإتقان والنظافة والذوق؛ بل والخُلق والأخلاقيات فى المعاملات اليومية العادية. وإن إفراط السكان يمكن أن يكون مقتل مصر ما لم نسارع نحن فنقتله! فقد أصبح عبئا حقيقيا على تنميتنا الاقتصادية, ويهدد بأن يضعنا تحت رحمة الضغوط الخارجية. ولا حل لأى مشكلة فى مصر، ما لم يبدأ من مشكلة السكان أولا, وإلا ففاشل كل علاج لأى مشكلة أخرى. وكل طفل يولد فى مصر الآن يخفض من وزنها ومكانتها، فالانفجار السكانى يشوه صورة مصر فى الداخل والخارج، وأذل عنق مصر للصديق والعدو.
وأضيف، خامسا، ما سجله عالم الرى المصرى الكبير الدكتور محمود أبو زيد يقول: إنه بخلاف فترة ملء سد النهضة، فانه يؤثر على حجم التصرف السنوى الطبيعى للنيل الازرق الى مصر والسودان، اذا ما لم تلتزم اثيوبيا باقتصاره على توليد الطاقة. وتتطلب المواجهة رؤية تحشد كل الطاقات للتحرك سياسياً ودبلوماسياً خصوصاً مع المجتمع الدولى، والتسلح بكل الأسانيد الفنية والدراسات العلمية والقانونية، واستخدام كل الأدوات والوسائل اللازمة. وتعانى مصر عجزا مائيا يقدر بنحو 23 مليار متر مكعب سنويا، حتى قبل تشغيل سد النهضة، ويسجل عالمنا الكبير الدكتور سعد نصار أن نسبة الاكتفاء الذاتى لمصر من القمح تقل عن 57 % حتى صارت المستورد الأول للقمح فى العالم، وزادت النسبة للذرة الشامية، ومن الزيوت النباتية نحو 20 %، ومن الفول أقل من 28 %، ومن العدس أقل من 1 %، وذلك عشية فترة الرئاسة الأولى للرئيس السيسى.
وأعلن، سادسا، أن كفاءة وعدالة النظام الاقتصادى والاجتماعى هما أساس شرعيته. وقد تأكدت نظريا وتاريخيا ضرورة تدخل الدولة لضبط إخفاق السوق، لحماية العدالة الاجتماعية وتعظيم الكفاءة الاقتصادية. والنظام الاقتصادى الاجتماعى المنشود يرتكز الى دور حاسم الأهمية للرأسمالية الصناعية المصرية، شريطة أن تنهض بمسئولياتها المجتمعية والتنموية والوطنية، ويمثل أساس بناء دولة المواطنة، دولة كل مواطنيها، ومنهم الرأسماليون المصريون بكل شرائحهم الكبيرة والمتوسطة. وأكرر أنه لا خلاف على أن رجل الأعمال يسعى, وينبغى أن يسعى, الى تحقيق أقصى ربح ممكن, لأن هذا ما يميز مشروع الأعمال عن العمل الخيرى, ولأن تعظيم الربح يوفر حافز رجل الأعمال, المبادر والمنظم والمخاطر والمبتكر, ليكون فاعلا لا غنى عنه فى تحقيق التنمية والتصنيع والتقدم. لكن هدف الربح, وهو منطقى وتاريخى ومشروع, لا يتعارض مع تحقيق ربحية المجتمع مع الربح الفردى.
وأختم، سابعا، بما سجلته فى مقالى السابق أقول: إن مواجهة تحدى انقاذ الدولة- بل والوطن والأمة والهوية- كانت المهمة الملحة لمصر تحت قيادة السيسى فى فترة رئاسته الأولى. لكنه على الأمة المصرية أن تستوعب حتمية اقتلاع جذور الإرهاب بمواجهة شاملة. ولن يتم اقتلاع جذور الفكر التكفيرى الإرهابى بغير حصار ومحاربة فكر السلفية التكفيرية، التى ترتدى مسوح السلمية تَقِيةً ونفاقاً؛ وتولد كل يوم جندا للارهاب، وتجهر بازدراء وتحقير وتكفير المسيحيين، ومعهم كل مجتهد يسعى لتجديد الفكر الدينى.
نقلا عن الاهرام القاهرية