بقلم - طه عبد العليم
مع احتفالنا بتحرير سيناء من الاحتلال الإسرائيلى، بفضل انتصار جيش مصر فى حرب أكتوبر 1973، قبل أى شىء، ومع احتفائنا بحرب 2018 لتصفية قاعدة الإرهاب فى سيناء، بفضل انتصار جيش مصر لشعبها فى ثورة 30 يونيو، قبل أى شىء، يجدر بنا أن نستعيد قصة الجيش الوطنى المصرى عبر التاريخ، فى مواجهة سوء قصد القوى المعادية الداخلية والدولية والإقليمية، التى تستهدف تقويض دوره الوطنى، وأيضا فى مواجهة نقص وعى أجيال شابة بالدور الفريد لجيش الأمة المصرية. ولنتذكر دوما أنه بفضل جند مصر حظيت بالاستقلال نحو 70 % من تاريخها، وهو ما لم تحققه أمة على وجه الأرض. وأكتفى هنا بإيجاز صفحات مجيدة من تاريخ جيش مصر عبر العصور. وأسجل، أولا، أنه فى عصر الأسرات الفرعونية المبكرة ومنذ توحيد مصر شن جندها بقيادة ملوكها حملات ردع ظافرة ضد كل من هدد حدود الدولة القديمة، وكان يتم التجنيد من مقاطعات مصر؛ ويقود الجند حكام المقاطعات لمساعدة الملك وقت الحرب. وفى الأسرة الثالثة تحت حكم الملك زوسر بدأ تأسيس أول جيش وطنى ثابت ومنظم، لحماية حدودها وكبح جماح أى عصيان يهدد وحدتها. وقد انتصر جند مصر بقيادة أحمس الأول فى أول حركة تحرر وطنى ظافرة فى التاريخ، فدحروا الهكسوس غزاة الدولة الوسطى، وأسسوا بقيادة تحتمس الثالث فى الدولة الحديثة أول امبراطورية ثابتة الأركان فى التاريخ. وحين غفل حكام مصر فسرحوا الجيش الوطنى خوفا على سلطتهم واعتمدوا على المرتزقة من الليبيين كان حكم الأسرة الليبية المتمصرة! ثم كان حكم الأسرة الكوشية فى شمال وشرق السودان، حين أغواها الكهنة بفتح مصر انتصاراً لعقيدة آمون!! لكن جند مصر انطلقوا من المناطق المحررة فحرروا مصر من حكم الليبيين والكوشيين، ثم دحروا غزاة العالم الجدد من الآشوريين ثم الفرس.
وثانيا، أنه فى قرون تفكيك الجيش الوطنى المصرى مع نهاية عصر الأسرات الفرعونية قبل المصريون حكم البطالمة حين زعموا منذ فَتَح الإسكندر انتسابهم لعقيدة آمون. وحين لجأ البطالمة للفرقة المصرية لصد محاولة غزو مصر أثبتت- فى معركة رفح- أن روح العسكرية المصرية المجيدة الكامنة لم تنطفىء جذوتها. وفى العصور الوسطى، وباستثناء قرون الاحتلال الرومانى ثم العثمانى، فإن المصريين بعد الفتح الإسلامى حين قبلوا بحكامهم الأجانب لمجرد كونهم مسلمين كانت مصر مركز الامبراطوريات الفاطمية والأيوبية والمملوكية مترامية الأطراف، واستند رد الغزو الصليبى والغزو التترى الى جيوش جسمها الأساسى من المصريين كما سجل صبحى وحيدة. وفى مواجهة كل غزو شهدت مصر حركات عصيان وثورات وتمردات مسلحة؛ كثيراً ما أجبرت الإمبراطور المستعمر إلى القدوم بنفسه لإخمادها، دون جدوى غالباً، فضلاً عن انتزاع قوى التحرر إمارات مستقلة، كما لخص جمال حمدان.
وثالثا، أنه كان يتم تجنيد المصريين فى الجيوش العثمانية قبل تأسيس جيش مصر فى عصرها الحديث كما سجل الجبرتى. وتروى لنا عفاف لطفى السيد مارسو، فى كتابها البحثى الرصين قصة تأسيس جيش مصر الوطنى الحديث فى عهد محمد على، ثم تحجيم القوى الاستعمارية له، وهو ما مهد لاحتلال بريطانيا لمصر فى عهد حفيده الخائن توفيق. وبفضل ثورة المصريين 1805، فرضوا وزعماؤهم تنصيب المغامر الألبانى محمد على واليا رغم أنف الاستعمار العثمانى، فى زمن لم يكونوا قد استردوا فيه بعد وعيهم بهويتهم الوطنية. وكان جيش محمد على فى البداية مكوناً من سرايا ألبانية وتركية ومملوكية مع جند تم شراؤهم من الإمبراطورية العثمانية وشمال أفريقيا، مع احتياطيين من البدو. وفى عام 1815 قام جنود ألبان عائدون من حرب الحجاز بنهب المتاجر والمخازن والمنازل فى القاهرة، فكانت ذريعة محمد على لإحلال جيش حديث منضبط محلهم. وكان العبيد من السودان المصدر الجديد لجنوده، وكان هذا دافعا أساسيا لغزوه، لكن محاولة تجنيد جيش من العبيد فشلت، فتغلبت الحاجة على نفور محمد على من تجنيد المصريين. وفى البداية تم تجنيد الفلاحين بأعداد صغيرة، وفى نهاية الأمر صار الجزء الأعظم من الجيش مشكلاً منهم مسلمين ومسيحيين. لكن المصريين لم يرقوا لرتبة أعلى من الملازم الأول أو الثانى. فعمل إبراهيم باشا على اقناع والده بأن المصريين ليسوا جنوداً أكفاء فحسب، بل يمكنهم أن يكونوا ضباطاً أفضل من الأتراك؛ فكتب لوالده يقول: لقد أظهروا فرط الشجاعة، ويزداد حبهم لنا كلما ارتفعوا فى الرتب، فما الذى يمنعك إذن يا صاحب السمو من تعيين عدد منهم فى رتبة المقدم (البكباشى)؟!
ورابعا، أن تحديث مصر ارتبط بخلق جيش من المصريين، كان مكونا من أكثر من مائة ألف مقاتل استلزمتهم التوسعات الامبراطورية. وأنشأ محمد على مجموعة متكاملة من الصناعات الجديدة المرتبطة بالجيش، شكلت مثالاً نموذجياً لمجمع صناعى حربى. وكانت الذخائر تشترى من أوروبا لافتقار مصر للفحم والحديد، وحين رفضت الدول الأوروبية بيع الأسلحة اللازمة، بدأ نسخها بمصر. ولكى يفرض استقلاله بمصر عن العثمانيين والأوروبيين تخطى محمد على حدود مصر فاكتسب عداوة الطرفين؛ واستنزف فوائض مصر المالية فى مغامرات عسكرية، وفقد الإمبراطورية. وأعطت معاهدة بلطة ليمان عام 1837، التى طبقت بعد عام 1840، سيطرة فعلية للتجار الأوروبيين على السوق المصرية، وتسببت فى وأد الصناعات الوليدة غير القادرة على المنافسة دون حماية. ووأدت معاهدة 1841 مشروع محمد على للتصنيع والاستقلال الاقتصادى، وإن تمكن من جعل مصر مملكة وراثية لأسرته. وأخيرا، أن تأسيس جيش مصر الحديث كان رافعة عودة وعى المصريين بهويتهم الوطنية. ونقرأ لطاهر عبد الحكيم فى الشخصية الوطنية المصرية أن سعيد باشا فتح باب الترقى أمام المصريين الى رتبة قائمقام، وفى مقدمتهم عرابى وقادة الثورة العرابية. وبفضل ثورة 1919 وانتزاع معاهدة 1936 التحق من الطبقات الشعبية بالقوات المسلحة كان بينهم قادة ثورة 23 يوليو 1952 وبينهم عبد الناصر، فشهدت تطورا هائلا، وتمكنت من تحرير سيناء بدحر هزيمة يونيو وخوض حربى الاستنزاف واكتوبر، ثم كان تطورها النوعى اللاحق تحت قيادة السيسى لمواجهة التهديدات القائمة وخوضها حرب سيناء 2018، لتحريرها من الارهاب.
نقلا عن الاهرام القاهرية
المقال يعبّر عن رأي الكاتب وليس بالضرورة رأي الموقع