توقيت القاهرة المحلي 22:17:32 آخر تحديث
  مصر اليوم -

صعود وسقوط مشروع تصنيع مصر «3»

  مصر اليوم -

صعود وسقوط مشروع تصنيع مصر «3»

بقلم-د. طه عبد العليم

كان مشروع محمد على للتصنيع بإنجازاته المشهودة كاشفا لحقيقة تاريخية لا ينبغى أن يحجبها إسقاطه جراء ضغوط القوى الاستعمارية الأوروبية قبل أى سبب آخر. أقصد أنه كلما بدا أن مصر لن تتجاوز كبوتها إذا بها تنهض عفية جبارة تبهر الصديق قبل العدو. وتتأكد هذه الحقيقة بمقارنة نهضة مصر الصناعية والشاملة فى عهد محمد علي، والتى عرضت فى مقالات سابقة لملامحها ومؤشراتها، بحالة مصر عشية ثورة المصريين لفرض ولاية محمد على.

وأسجل، أولا ـ أن تطور الرأسمالية فى الصناعة المصرية, واللحاق بالثورة الصناعية قد تأخر, ولم تعرف مصر الصناعة الآلية الحديثة- فى صورتها الإقطاعية ثم فى صورتها الرأسمالية- إلا متأخرا. ولا ينبغى المبالغة فى تقدير مدى ازدهار وتطور المدن والموانى المصرية فى عهد الدولة الفاطمية، وبوجه خاص، لا ينبغى المبالغة فى تقدير مستوى تطور الاتجاهات الرأسمالية الجنينية فى صناعاتها. وعلى ذلك فان المدن المصرية آنذاك لم تلعب ذلك الدور الذى لعبته المدن الأوروبية الغربية فى انحلال الاقطاع وميلاد الرأسمالية. لكنه لا يجدر بنا- رغم ما ذكرته نسيان أن المدن والموانى المصرية قد ازدهرت فى زمن النهوض المبكر للمدن والموانى الايطالية قبل الثورة الصناعية. وفى عهد الدولة الفاطمية فى تاريخها الوسيط فى العصر الاسلامى شهد الاقتصاد المصرى ازدهارا للتجارة الداخلية، وتقدما فى عملية تشكل السوق الداخلية بدمج الأسواق المحلية المعزولة. وتنامى دور مصر فى التجارة العابرة بين أوروبا والشرق، وأصبحت مصر مركزا لتلك التجارة بتحول الطرق من الخليج العربى الى البحر الأحمر. واستند ازدهار المدن والموانى الى تطور الزراعة بفضل توسع أعمال الرى واستصلاح الأراضى وتوسع زراعة الكتان والحبوب وغيرهما، وتطور انفصال الحرفة عن الزراعة، وانتشرت الصناعات والورش الحرفية فى البلاد ولم تعد مقصورة على المواني، وتغلغل رأس المال التجارى فى الصناعات الحرفية، التى تقدم تقسيم العمل بعض الخطوات داخلها، وكانت بدايات ظهور المصانع الحديثة.

وثانيا ـ أن الانحطاط اللاحق للمدن والموانيء المصرية فى زمن الحروب الصليبية، ثم بعد الفتح العثمانى لمصر عام 1517 وحتى مطلع القرن التاسع عشر، يرجع الى ثلاثة عوامل أساسية: أولها ـ توالى الغزوات الصليبية والتترية على مصر، وتوالى الفتن الداخلية والحروب الخارجية، واهمال الحكام المماليك والعثمانيين العناية بمنشآت الري، وتدهور الزراعة، وهبوط النيل وطغيان الصحراء على الأرض المزروعة، وهروب الفلاحين من الزراعة تحت وطأة الضرائب الثقيلة وابتزاز الأموال. فقد ترتب على ما سبق، خاصة اهمال العناية بمنشآت الري، انحطاط قوى الانتاج فى بلد تعتمد زراعته- أى أساس حياته الاقتصادية- على الرى الاصطناعي؛ حيث تكون جودة المحاصيل- كما ونوعا- مسألة تتوقف على حال الحكومة الحسن أو السيئ، مثلما تتغير جودة المحاصيل فى أوروبا وفقا للأحوال الجوية الحسنة أو السيئة. وثانيها ـ أن المدن المصرية الأكبر، التى ظهرت بعد الفتح العربي، كانت المقر الرئيسى لاقامة كبار ملاك الأراضى من رجال السلطة ورجال الدين، الذين تسلطوا على حياتها، وحازوا قسماً مهما من ثروتها. وقد شاركوا فى تجارة التوابل ثم البن، واستخدموا الثروة النقدية المتراكمة لديهم من ريع الارض والربح التجارى بعيدا عن الاستثمار الانتاجى الزراعى والصناعي. وثالثها ـ أنه قد جرى امتصاص الاتجاهات الرأسمالية الجنينية فى الصناعة المدينية، بسبب ضعف تطور تعاونيات الحرفيين وعدم قدرة التجارة والحرفيين على تكوين فئة مدينية مغلقة قادرة على الاستقلال السياسي، كما عرفت أوروبا فى فترة الميلاد المبكر للرأسمالية فى الصناعة. وقد أصبحت الطوائف الحرفية والتنظيم المراتبى للحرفيين أكثر تحديدا فى مصر منذ القرن السابع عشر، لكن الطوائف الحرفية استمرت تابعة للحكومة، تدفع لها الضرائب الثقيلة، وتقدم قوة العمل بالسخرة. ولم يسمح التطور البطيء لقوى الانتاج بتقدم عملية التمايز الاقتصادى والاجتماعى للحرفيين، بين عاملين بأجر وأصحاب أعمال رأسماليين فى مصانع حديثة. وثالثا ـ أن الكشوف الجغرافية قد أدت الى ثورات تجارية كبرى فى القرنين 16 و17، ودفعت الى الأمام وبسرعة غير مسبوقة عملية تطور رأس المال التجاري، ووفرت قوة دفع هائلة للانتقال من الاقطاع الى الرأسمالية فى أوروبا. وعلى العكس، فإن الكشوف الجغرافية- بتحويلها تجارة أوروبا مع الشرق الى طريق رأس الرجاء الصالح حول إفريقيا- أدت الى تدهور التجارة والحرف، حيث فقدت الموانى والمدن المصرية دورها كوسيط للتجارة العابرة الذى كان وراء ازدهار مصر فى العصر المملوكى المبكر. ثم أدت الضرائب الباهظة المفروضة على التجارة وفقدان الأمن فى الطرق التجارية الى التحول الشامل لهذه التجارة بعيدا عن مصر، ومن ثم الى مزيد من تدهور الصناعات الحرفية. ووفقاً لوصف علماء الحملة الفرنسية كانت مصر فى مطلع القرن التاسع عشر تتكون من بضع مدن تشبه القرى الكبيرة، وكانت القاهرة مدينة نصف خربة، ولا يتجاوز عدد سكان الاسكندرية ثمانية آلاف نسمة، وبينهما امتدت الصحراء، عدا قرى متناثرة لا يتعدى متوسط سكان كل منها نحو خمسمائة نسمة، ولم يتعد إجمالى سكان مصر نحو مليونين ونصف مليون نسمة . وتتأكد لنا حقيقة هذا الوصف، إذا رجعنا الى وصف الجبرتى للحالة الاقتصادية للبلاد عشية ولاية محمد علي، إذ يقول: إن النيل قد واصل الهبوط، والفتن قد استمرت، واشتد ابتزاز الأموال، وأكل الفلاحون- الهاربون بنسائهم وأطفالهم من الجوع والظلم- الزبالة والميت من الحمير نيئاً، وقل التعامل إلا فيما يؤكل، وشحت النقود فى أيدى الناس، وكان سمرهم الحديث عن الأكل!! وأخيرا، تبقى حقيقة أن القدرات الكامنة للأمة المصرية كانت دوما العامل الحاسم فى استجابتها لتحديات النهضة والريادة على مدى تاريخها الألفى العريق. ومن معرفة هذه الحقيقة نستوعب أن مصر الناهضة كانت صانعة محمد على ولم يكن هو صانعها؛ كما غيره من قادتها من غير المصريين وإن تمصروا، الذين قادوا نهضتها حين استقلوا بها وبحكمها بعد العصور الفرعونية؛ بدءا من حكام البطالمة ومرورا بالعصر الاسلامى وحتى تاريخها الحديث قبل ثورة يوليو 1952.

نقلا عن الأهرام القاهرية

المقال يعبّر عن رأي الكاتب وليس بالضرورة رأي الموقع

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

صعود وسقوط مشروع تصنيع مصر «3» صعود وسقوط مشروع تصنيع مصر «3»



GMT 20:22 2023 الخميس ,19 تشرين الأول / أكتوبر

مليونية ضد التهجير

GMT 03:11 2023 الأربعاء ,21 حزيران / يونيو

الخالدون أم العظماء

GMT 04:43 2023 الإثنين ,19 حزيران / يونيو

كل سنة وأنت طيب يا بابا

GMT 04:15 2023 الأحد ,18 حزيران / يونيو

الزعامة والعقاب... في وستمنستر

GMT 03:32 2023 الأحد ,18 حزيران / يونيو

حدوتة مصرية فى «جدة»

إطلالات هند صبري مصدر إلهام للمرأة العصرية الأنيقة

القاهرة ـ مصر اليوم

GMT 12:40 2024 السبت ,23 تشرين الثاني / نوفمبر

محمد حيدر مسؤول العمليات في حزب الله هدف عملية بيروت
  مصر اليوم - محمد حيدر مسؤول العمليات في حزب الله هدف عملية بيروت

GMT 17:30 2024 السبت ,23 تشرين الثاني / نوفمبر

ميرهان حسين تكشف مفاجأة عن أعمالها المقبلة
  مصر اليوم - ميرهان حسين تكشف مفاجأة عن أعمالها المقبلة

GMT 16:28 2024 السبت ,23 تشرين الثاني / نوفمبر

نائبة الرئيس الفلبيني تتفق مع قاتل مأجور لاغتياله وزوجته
  مصر اليوم - نائبة الرئيس الفلبيني تتفق مع قاتل مأجور لاغتياله وزوجته

GMT 08:05 2024 الإثنين ,18 تشرين الثاني / نوفمبر

مواقيت الصلاة في مصر اليوم الإثنين 18 نوفمبر /تشرين الثاني 2024

GMT 10:55 2024 الأحد ,17 تشرين الثاني / نوفمبر

دوناروما يؤكد ان غياب مبابي مؤثر وفرنسا تملك بدائل قوية

GMT 09:55 2024 الثلاثاء ,19 تشرين الثاني / نوفمبر

فيتامينات ومعادن أساسية ضرورية لشيخوخة أفضل صحياً

GMT 08:31 2024 الخميس ,14 تشرين الثاني / نوفمبر

الكشف عن وجود علاقة بين النوم المبكر وصحة أمعاء طفلك

GMT 10:54 2024 الخميس ,21 تشرين الثاني / نوفمبر

الفستق يتمتع بتأثير إيجابي على صحة العين ويحافظ على البصر

GMT 07:27 2024 الأربعاء ,30 تشرين الأول / أكتوبر

هند صبري بإطلالة أنثوية وعصرية في فستان وردي أنيق

GMT 04:33 2024 الثلاثاء ,19 تشرين الثاني / نوفمبر

اليونسكو تعزز مستوى حماية 34 موقعًا تراثيًا في لبنان

GMT 13:08 2024 الإثنين ,18 تشرين الثاني / نوفمبر

نيمار يشتري بنتهاوس بـ 200 مليون درهم في دبي

GMT 07:25 2024 السبت ,16 تشرين الثاني / نوفمبر

زلزالان بقوة 4.7 و4.9 درجة يضربان تركيا اليوم

GMT 03:12 2017 الأحد ,15 تشرين الأول / أكتوبر

ليليا الأطرش تنفي تعليقاتها عن لقاء المنتخب السوري

GMT 18:33 2017 الأربعاء ,22 تشرين الثاني / نوفمبر

ميا خليفة تحضر إلى لبنان في زيارة خاصة

GMT 14:47 2019 السبت ,09 شباط / فبراير

الحضري على رأس قائمة النجوم لمواجهة الزمالك

GMT 11:13 2018 الأربعاء ,11 إبريل / نيسان

ما وراء كواليس عرض "دولتشي آند غابانا" في نيويورك
 
Egypt-today

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

egypttoday egypttoday egypttoday egypttoday
Egypttoday Egypttoday Egypttoday
Egypttoday
بناية النخيل - رأس النبع _ خلف السفارة الفرنسية _بيروت - لبنان
Egypt, Lebanan, Lebanon