توقيت القاهرة المحلي 16:08:40 آخر تحديث
  مصر اليوم -

مأزق التصنيع الرأسمالى الوطنى (5)

  مصر اليوم -

مأزق التصنيع الرأسمالى الوطنى 5

بقلم - د. طه عبد العليم

فى سياق زخم الحركة الوطنية المصرية الذى صنعته ثورة 1919، كان إنشاء بنك مصر فى عام 1920 نقطة انطلاق تطور الصناعة الرأسمالية الوطنية الكبيرة فى مصر. وكان بنك مصر أول بنك تجارى وطني- رأسمالاً وادارة- قام بدور رائد فى تجميع المدخرات القومية وتقوية المواقع المالية اللازمة لتشكيل طبقة رأسمالية صناعية وطنية. فلم تعرف مصر حتى عام 1927 إلا مصنعاً أجنبيا واحداً كبيراً لغزل ونسج القطن اعتمد على استخدام الآلات الحديثة، ولم تنقذه من التصفية سوى صعوبة الاستيراد وزيادة الطلب خلال الحرب العالمية الأولي. وفى مواجهة السياسة الاستعمارية البريطانية المعادية لتصنيع مصر.

وأسجل، أولا، أن التصنيع الرأسمالى الوطني، الذى كان ثمرة تأسيس بنك مصر للصناعة الوطنية الرأسمالية الكبيرة، جاء فى سياق الانتصارات التى حققها نضال الحركة الوطنية المصرية ضد الاستعمار البريطانى بعد عقود من عدائه السافر لتصنيع مصر, وخاصة تصنيع محصول البلاد الزراعى الرئيسي. فقد كان الزخم الوطنى الثورى لثورة 1919 رافعة هامة لحفز مشاركة المصريين فى تلبية دعوة طلعت حرب للمساهمة فى تأسيس بنك مصر واقامة شركاته الصناعية وغير الصناعية. وقد قامت شركات بنك مصر منذ البداية كبيرة فتمكنت من مواجهة المنافسة الضارية مع الشركات المملوكة لرأس المال الأجنبي, الوافد والمقيم, العاملة فى مصر. وحتى يتمكن من هذا قام بنك مصر بدور تقدمى تاريخيا بتعبئته مدخرات صغار المساهمين والمودعين من المصريين, وجذبهم الى ميدان المعركة من أجل تصنيع مصر وتمصير نشاط الأعمال الرأسمالى الحديث والحد من الهيمنة المطلقة للاحتكارات الأجنبية. وقد فتح تصنيع القطن الطريق أمام قيام الصناعة المصنعية الرأسمالية الحديثة فى هذا الفرع القيادى للصناعة التحويلية.

وثانيا، أن التصنيع الرأسمالى الوطنى فى مصر قد حقق انجازات أهمها: تسارع معدل نمو الانتاج الصناعى وتضاعفه, وارتفاع الوزن النسبى للناتج المتولد فى الصناعة التحويلية من الناتج المحلى الاجمالي, وتحديث الفروع التقليدية وخاصة بادخال نظام الآلات والمعدات الحديثة الى عملية الانتاج, واقامة فروع جديدة للصناعة الآلية التحويلية. وارتفع الرقم القياسى لمجمل الانتاج الصناعى من 100 فى عام 1939 الى 138 فى عام 1945, وارتفع الرقم القياسى للناتج المحلى المتولد فى الصناعة التحويلية وحدها من 100 فى عام 1945 الى 147 فى عام 1952. وزادت القيمة المضافة الصافية للصناعة التحويلية, باستبعاد قيمة الوقود والمواد الأولية, من 13 مليون جنيه فى عام 1937 الى 54 مليون جنيه فى عام 1945؛ أى تضاعفت بأكثر من أربع مرات. وارتفع نصيب القيمة المضافة الصافية للصناعة التحويلية فى إجمالى الناتج القومى الصافى للبلاد من 8% الى 11% بين العامين المذكورين. وإن تسبب تعذر استيراد الآلات فى سنوات الحرب العالمية الثانية فى انخفاض رصيد الآلات فى اجمالى رأس المال الثابت.

وثالثا، أن التصنيع الرأسمالى الوطنى فى مصر قاد الى نتائج؛ أهمها فى المجال الاقتصادي: قيام الصناعة الآلية الكبيرة فى الفروع الرئيسية للصناعة التحويلية وتقديم هذه الصناعة القسم الأعظم من السلع المصنعة، وتطور التقسيم الاجتماعى للعمل وتوسع السوق الداخلية وتنامى علاقات الترابط وصلات التشابك والاعتماد المتبادل بين مختلف قطاعات وفروع الاقتصاد القومي؛ بين الصناعة التحويلية والزراعة التجارية والصناعة الاستخراجية وانتاج الطاقة والبناء والتشييد والنقل والمواصلات وقطاع المال, كما نما الاعتماد المتبادل بين فروع الصناعة التحويلية... الخ. وأدت نتائج الانقلاب الصناعى الرأسمالى التى أوجزناها الى إضعاف تبعية الاقتصاد المصرى المطلقة للسوق العالمية باعتبارها مجرد مزرعة للقطن. وفى أعقاب الحرب العالمية الثانية- ورغم حرمان بنك مصر من المساهمة فى التصنيع الوطنى جراء قيود قانون دعمه- جرى تأسيس مصانع آلية كبيرة فى مجالات انتاج: المعادن والمنتجات المعدنية الحديدية وغير الحديدية, والمواد الكيماوية الوسيطة والكيماويات الأساسية, والسلع الكهربائية مثل بطاريات السيارات.. الخ.

ورابعا، أن مأزق ارتقاء التصنيع الرأسمالى الوطنى قد تجلى في: تدنى مساهمة فروع الصناعات الثقيلة فى القيمة المضافة للصناعة التحويلية وعدم قيام صناعات انتاج الآلات والمعدات والمحركات ووسائل النقل, واقتصر انتاج مصر الهزيل منها على انتاج أدوات محسنة وأساس فى الورش. ولم تعرف صناعة التعدين استخراج الحديد الخام رغم توافر مصادره وربحية استخراجه, ورغم ضعف انتاج الكهرباء وارتفاع تكلفتها لم تنفذ الحكومات المتعاقبة وعودها بإقامة محطة كهرباء خزان أسوان لتوليد الكهرباء الرخيصة من المساقط المائية. وأما انتاج الصناعة المصرية, الذى غطى اجمالى الاستهلاك المحلى من العديد من المنتجات المصنعة, فانه لم يتعد فى عام 1952 حوالى 46 سلعة ومجموعة من السلع, ولم يتجاوز متوسط قيمة كل منها نحو نصف مليون جنيه. وقد تم التصنيع الرأسمالى الوطنى من أعلى وعلى درجة عالية من التركز والتكلفة منذ البداية حتى يمكنها من الصمود فى وجه المنافسة الأجنبية وبسبب الأثمان العالية للآلات والتجهيزات فى زمن إقامتها المتأخر. وكان ارتفاع تكاليف الانتاج نتيجة الاعتماد على الواردات من السلع الرأسمالية والمستلزمات الوسيطة عالية السعر, عاملا أسهم فى انخفاض مستوى الانتاجية فى الصناعة المصرية الآلية الحديثة.

وخامسا، أن السياسة الاقتصادية قد استجابت للمصلحة الوطنية فى تصنيع البلاد فحفزت تطور الصناعة الحديثة القومية، فى بعض الأحيان, لكنها عرقلت هذا التطور وعبرت بشكل سافر عن المصالح المعارضة والقوى المناوئة لتصنيع مصر, فى أغلب الأحيان. والأمر أنه أياً تكن الأحزاب السياسية التى تولت الحكم وسواء جاءت الحكومات المتعاقبة عن طريق الانتخابات البرلمانية أو بمؤامرات الاستعمار والقصر، فإنه لم يكن بمقدورها أن تخرج عن تأثير القوى المسيطرة على اقتصاد البلاد وصنع السياسة الاقتصادية وهي: سيطرة رأس المال الأجنبى على الشركات المساهمة والبنوك أى مراكز السيطرة على الاقتصاد المصري، وطبقة كبار ملاك الأرض المناوئة للاصلاح الزراعى الضرورى لتوسيع السوق بزيادة القدرة الشرائية للفلاحين والتحول من المضاربة العقارية الى الاستثمار الصناعي, وتضارب مصالح النخبة الرأسمالية الكبيرة، الذى تجلى فى تعارض مصالحها فى الاستثمار الصناعى مع كونها هى ذاتها من كبار ملاك الأرض وشريكة لرأس المال الأجنبى المسيطر.

نقلا عن الاهرام القاهرية

المقال يعبّر عن رأي الكاتب وليس بالضرورة رأي الموقع

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

مأزق التصنيع الرأسمالى الوطنى 5 مأزق التصنيع الرأسمالى الوطنى 5



GMT 20:22 2023 الخميس ,19 تشرين الأول / أكتوبر

مليونية ضد التهجير

GMT 03:11 2023 الأربعاء ,21 حزيران / يونيو

الخالدون أم العظماء

GMT 04:43 2023 الإثنين ,19 حزيران / يونيو

كل سنة وأنت طيب يا بابا

GMT 04:15 2023 الأحد ,18 حزيران / يونيو

الزعامة والعقاب... في وستمنستر

GMT 03:32 2023 الأحد ,18 حزيران / يونيو

حدوتة مصرية فى «جدة»

إطلالات هند صبري مصدر إلهام للمرأة العصرية الأنيقة

القاهرة ـ مصر اليوم

GMT 09:22 2024 الخميس ,21 تشرين الثاني / نوفمبر

قرية بورميو الإيطالية المكان المثالي للرياضات الشتوية
  مصر اليوم - قرية بورميو الإيطالية المكان المثالي للرياضات الشتوية

GMT 09:31 2024 الخميس ,21 تشرين الثاني / نوفمبر

الزرع الصناعي يضيف قيمة لديكور المنزل دون عناية مستمرة
  مصر اليوم - الزرع الصناعي يضيف قيمة لديكور المنزل دون عناية مستمرة

GMT 10:54 2024 الخميس ,21 تشرين الثاني / نوفمبر

الفستق يتمتع بتأثير إيجابي على صحة العين ويحافظ على البصر
  مصر اليوم - الفستق يتمتع بتأثير إيجابي على صحة العين ويحافظ على البصر

GMT 10:18 2024 الخميس ,21 تشرين الثاني / نوفمبر

"نيسان" تحتفي بـ40 عامًا من التميّز في مهرجان "نيسمو" الـ25
  مصر اليوم - نيسان تحتفي بـ40 عامًا من التميّز في مهرجان نيسمو الـ25

GMT 08:11 2024 الخميس ,31 تشرين الأول / أكتوبر

وجهات سياحية مميزة توفر متعة التزلج في فصل الشتاء

GMT 16:32 2020 الجمعة ,18 كانون الأول / ديسمبر

والدة الفنان المصري عمر كمال تكشف موقفها من عمله

GMT 09:42 2020 الأحد ,06 كانون الأول / ديسمبر

تعرف على قائمة الإجازات الرسمية 2021 في مصر

GMT 02:51 2020 الجمعة ,27 تشرين الثاني / نوفمبر

إصابة لاعب الأهلي المصري محمد أشرف بكورونا

GMT 20:23 2020 الأربعاء ,28 تشرين الأول / أكتوبر

طوارئ في قرية في محافظة قنا بسبب كورونا

GMT 18:31 2020 الإثنين ,28 أيلول / سبتمبر

مورينيو يوضح إصابة سون هي الأولى فقط المزيد قادم

GMT 09:49 2020 الإثنين ,27 تموز / يوليو

جيونبك يعزز موقعه في وصافة الدوري الكوري
 
Egypt-today

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

egypttoday egypttoday egypttoday egypttoday
Egypttoday Egypttoday Egypttoday
Egypttoday
بناية النخيل - رأس النبع _ خلف السفارة الفرنسية _بيروت - لبنان
Egypt, Lebanan, Lebanon