منذ انقلاب حمد بن خليفة على والده قبل أكثر من 23 عاماً وسياسة قطر الخارجية آخذة بالشذوذ عن بقية دول الخليج العربي. كأن لسان حال الأمير الجديد يقول أريد أن تتحول قطر إلى دولة مؤثرة وفاعلة في المنطقة بدلاً من كونها تابعة فقط لسياسات الدول الأكبر منها، وعلى رغم أن الفكرة في حد ذاتها جيدة ولا يوجد عيب في تحقيق مثل هذا الطموح إن كان سيساهم في تنمية دول الخليج وشعوبها، إلا أن الهدف الذي رسمته قطر لنفسها كي تنتقل إلى هذه الدولة الجديدة لم يكن مدروساً بعناية. الحال القطرية بالطبع تختلف عن حال كوريا الجنوبية أو سنغافوره أو الإمارات العربية المتحدة التي تشترك جميعها في عناصر مؤثرة ومحفزة على التطور والتغيير، إذ لا يوجد لدى قطر غير المال الذي يأتي من مبيعات الغاز، لذلك فالسؤال إذاً كيف يمكن توظيف هذا المال؟ وما الذي قد يتحقق من ذلك؟
تزامن هذا الانقلاب مع فترة ما بعد تحرير الكويت مطلع التسعينات من القرن الماضي وما صاحب ذلك من اكتشاف فراغ إعلامي هائل في القنوات الإخبارية العربية، تبعه تنافس إعلامي بين عدد من مؤسسات دول الخليج، لسد هذا الفراغ. هنا دخلت قطر في المنافسة، والتقطت بقايا من كان يعمل في BBC العربية بعد إغلاقها في ذلك الوقت، وأسست قناة إخبارية جديدة سمتها «الجزيرة» في الربع الأخير من العام 1996. ظهرت القناة بشكل مبهر في تقديمها وانضباط مذيعيها وتنوع مصادرها، واكتسبت شعبية عربية طاغية. هنا برأيي بدأ الانحراف والنزف المالي والمعنوي الذي تعاني منه قطر حتى اليوم.
نتذكر منتصف التسعينات الميلادية من القرن الماضي، عندما بدأت منظمة «القاعدة» في شن الهجمات داخل السعودية، وكان أولها تفجير السيارة المفخخة بالقرب من مبنى يضم خبراء تدريب أميركيين تابع للحرس الوطني السعودي في شارع الثلاثين بالرياض. وفي تشرين الثاني (نوفمبر) من العام الذي يليه، وقع تفجير أبراج الخبر بتخطيط من «حزب الله» اللبناني، غير أن الحدث الأبرز كان تفجيرات الحادي عشر من أيلول (سبتمبر) 2001 في الولايات المتحدة. عادت التفجيرات إلى الداخل السعودي في العام 2003 و2004.
ما لفت أنظار المراقبين في منطقة الخليج وأصابهم بالذهول هو الانحياز الإعلامي الذي برز مع التغطية الإعلامية لهذه الأعمال الإجرامية بواسطة قناة «الجزيرة» القطرية، لم تكتف هذه القناة بتوجيه رسائلها المشبوهة التي تحمل تبريرات واهية للإرهاب، بل دأبت على استضافة زعيم «القاعدة» نفسه، وأفرغت له الساعات والدقائق ليتحدث كيف يشاء، تماماً كما تفعل اليوم مع عبدالملك الحوثي، غير أن الفارق بين الأمس واليوم أننا في منطقة الخليج كنا نرى قطر شقيقاً وحليفاً بالأمس، ونملك الكثير من الأمل بأن ما يحدث في القناة هو ربما جهل أو أخطاء أو حتى اختراق، بينما مشهد اليوم يوضح لنا عدواً يقف في الخطوط الأمامية والخلفية لإلحاق الضرر بدول الخليج ومصر ويتعرض للرموز، بل انضم أخيراً إلى الدعم الواضح لجماعة الحوثي في اليمن، ظهر ذلك إلى العلن وانكشف بالطبع بعد المقاطعة، بل ارتفعت وتيرة توظيف المتحدثين والمعلقين بشكل ملفت.
أخيراً وجدنا مؤسسات إعلامية عريقة تم اختراقها بالمال، مثل «واشنطن بوست» و «رويترز» وغيرها، وأثناء كتابة هذه المقالة تطالعنا صحيفة «وول ستريت جورنال» بتقرير يشير إلى استهداف قطر أكثر من 250 شخصية أميركية معتبرة قد تملك بعض التأثير على سياسات الرئيس ترامب، في مقدمتهم المحامي الشهير درشوتز، والمرشح الرئاسي السابق ماكابي. وتشير الصحيفة أيضاً الى مضاعفة إنفاق قطر على توظيف هؤلاء وعلى مؤسسات العلاقات العامة إلى أربع مرات مقارنة بما كان يدفع قبل المقاطعة.
من الناحية الأخرى، فقد سبق ذلك فوز قطر بتنظيم كأس العالم 2022، وما صاحبه من رشاوى بالملايين لشراء الأصوات ورصد البلايين لبناء ملاعب لكرة القدم تفوق حاجة قطر للمئة عام المقبلة، أيضاً وفي قطاع آخر، تم بناء الناقل الجوي الضخم المتمثل في «طيران قطر»، وتم حجز مئات الطائرات العملاقة الحديثة، ثم بناء مطار حمد الدولي الذي يعتبر تحفة جميلة ونادرة بين مطارات العالم. وجود هذه المشاريع الطموحة حتى لو تحقق بعضها من طريق الرشوة، كان كفيلاً بتميز قطر وظهورها لاعباً دولياً مهماً في المنطقة والعالم، لو وجدت الحكومة الراشدة التي تدرك وتستوعب عوامل النجاح وعوامل المخاطرة.
اليوم، وبفضل قصور الرؤية وارتكاب الكثير من الحماقات، لا نرى إلا قطر المعزولة الخالية من الأصدقاء الذين يعتد بصداقاتهم، وبجانب ذلك النزف الهائل المستمر من الأموال القطرية التي تتم بعثرتها في كل اتجاه من دون أي مردود اقتصادي أو سياسي حقيقي أو حتى معنوي.
جغرافياً وسياسياً، ومع شدة وطأة المقاطعة والارتباك وعدم الثقة في النفس، لجأت قطر إلى إيران وتركيا، في محاولة إبراز نوع من القوة. المؤسف لقطر أن من لجأت لهم هم أنفسهم يعانون من مقاطعة أخرى أكبر وأهم. الرئيس ترامب مزق الاتفاق النووي، وأعاد إيران إلى زمن ما قبل التوقيع، واليوم تئن تحت وطأة العقوبات الصارمة بشكل لم يسبق له مثيل. تركيا هي الأخرى تعاني من سياسة أردوغان التنموية المعتمدة على المبالغة في الاقتراض، عندما كانت نسب الفائدة البنكية ضئيلة. ها هي عملة تركيا تهوي إلى مستويات قياسية ومرشحة للمزيد من الهبوط بعد فشل الحكومة في تسديد التزاماتها. ماذا تفعل قطر الآن وإيران وتركيا بحاجة للمال؟ قبل عشرة أيام جرى استدعاء تميم إلى تركيا، وبعد لقاء سريع مع أردوغان أعلن عن دعم قطر لتركيا بمبلغ 15 بليون دولار، ولا نعلم حتى الآن عن متطلبات إيران والاستمرار في دعم الجهات الإعلامية المكلفة بالهجوم على دول المقاطعة.
هكذا نشاهد نهاية الأحلام الوردية التي خطط لها حمد بن خليفة وحمد بن جاسم بعد شعورهما بنوع من الغرور الزائف والتي كان في مقدمها سقوط حكومة السعودية والأمل بضم المنطقة الشرقية السعودية لإمارتهم كما أوضحت التسجيلات. الغريب ليس وجود تلك المؤامرة بل الاستمرار بالتوجه ذاته، على رغم فشلها الفاضح. هل المال كفيل هنا بإزالة مثل هذا العار؟ هل يكفي المال فقط لمواجهة دولة كبرى كالسعودية أو مصر؟
لا أعتقد ولا أظن بأن «الحمدين» لديهما الاستيعاب المطلوب لإدراك هذه الحقيقة. من هنا ستستمر قطر على هذا النهج المعيب الذي يدل بوضوح أن عدو قطر الحقيقي هو في حقيقة الأمر المال. لا شك لدي في أنه لولا هذه «الدراهم» لتوقفت قطر منذ اللحظة الأولى عن تبني هذا السلوك المجنون، ولا أشك اليوم بأنها ستتوقف حتى يتم صرف آخر بليون في خزينتها. المشهد باختصار يمثل حال نفسية تعبر بالحركة البطيئة عن صرع وانهيار وانتحار دولة.
نقلا عن الحياة اللندنية
المقال يعبّر عن رأي الكاتب وليس بالضرورة رأي الموقع