عشية الثلاثين من حزيران (يونيو) ٢٠١٣ سقط مشروع «الشرق الأوسط الجديد» الذي عملت على تأسيسه ودعمه إدارة الرئيس باراك أوباما إبان وجود هيلاري كلينتون في وزارة الخارجية، ولم نعد نسمع عنه شيئاً.
الحقيقة أن تصدع المشروع بدأ قبل ذلك عندما دخلت قوات درع الجزيرة (١٢٠٠ مقاتل سعودي و٨٠٠ مقاتل إماراتي) في آذار (مارس) ٢٠١١ مملكة البحرين لتخمد اضطرابات عملاء إيران هناك. إن كان هناك ما يستدعي الشكر للسيدة كلينتون فهو كونها ساهمت من غير قصد، في رفع وعي الشعوب وكشف خطورة الفوضى التي قد تهدد دول المنطقة إن لم تفعل هذه الدول شيئاً مختلفاً.
معظم الأنظمة والأحزاب في المنطقة تمكنوا من استيعاب الحقيقة على الأرض وبدأوا العمل على حماية أنفسهم ما عدا بالطبع إيران وأخيراً تركيا ومعهما الدعم غير المتناهي مالياً وإعلامياً، مع الأسف، من قطر.
هذا ما دفع المملكة إلى الخيار العسكري عندما أسست وترأست التحالف العربي لمواجهة المد الفارسي الذي وصل إلى اليمن. وهو السبب ذاته الذي جمع المملكة ومصر والإمارات والبحرين لمقاطعة قطر التي استمرت في احتضان الجماعات المتطرفة والمحرضة على القلاقل في كل مكان.
المثير هنا وما يتداوله الكثيرون في مراكز الدراسات الغربية الكبرى المعنية بالشرق الأوسط، أن السعودية تحديداً فعلت ذلك وأكثر على مستوى السياسة الخارجية بما يكتنفه ذلك من مخاطر، بينما تقوم داخلياً بما يشبه الثورة الإيجابية الهائلة المتمثلة في إعادة هيكلة الاقتصاد وما يتطلبه ذلك من انفتاح اجتماعي وتعديلات جوهرية في العديد من المسائل المعيقة للتنمية والتي كانت يوماً من المسلمات.
النقطة اللافتة أيضاً وفي ما يتصل بالسياسة الخارجية أن السعودية لم تتحدث إلى الولايات المتحدة ودول حليفة أخرى في الغرب عندما بادرت في مواجهة ميليشيات إيران في اليمن أو في مقاطعة قطر.
يشير المحلل الأميركي دينيس روس إلى ذلك بقوله: «لقد فقدت السعودية ثقتها في الولايات المتحدة عندما منح الرئيس السابق أوباما إيران كل ما طالبت به في الاتفاق النووي، وعندما سمح لها باللعب المكشوف لتمارس ما تريد فوق الأرض السورية». ويضيف روس: «هذا هو السبب الأهم في تحديد السعودية كأول دولة خارجية يزورها الرئيس ترامب لمحاولة إعادة الثقة بين البلدين وهذا أمر لا يستهان به ولا يجب التقليل من أهميته».
إذاً، الفراغ الذي نشأ هنا بسبب تخلي أميركا عن مصالحها الإستراتيجية في المنطقة التي حافظت عليها لأكثر من نصف قرن هو الذي دفع المملكة والإمارات ومصر والبحرين على الجلوس في مقعد القيادة لتشكيل وبناء الشرق الأوسط المتجدد ولا أقول الجديد. «شرق أوسط» لا يتعرض للحدود بين الدول ولا لتقسيمها لكيانات ولا يتدخل في السياسات الداخلية للغير.
كيان متجدد مركزه دول الخليج ومصر وشعاره العمل على التنمية المستدامة وتنويع مصادر الدخل والتطلع للغد. ولإيضاح الاختلاف الكبير الذي طرأ في ترتيب الأولويات، ما علينا إلا أن نستذكر ما حدث في السنة الأولى من عهد الملك سلمان والذي بدأ تزامناً مع تمدد النفوذ الإيراني في اليمن على نحو فاضح.
لم يقرر ساسة السعودية، مثلاً، تأجيل الحديث عن تطبيق رؤية الغد أو العمل الدؤوب على تنفيذ برنامج التحول الوطني الطموح كما أشرت قبل قليل، بل قدموا هذه البرامج والخطط العظيمة وبدأ العمل بها تزامناً مع حملة عاصفة الحزم العسكرية في اليمن أي دخول الوطن بحرب.
أن تفعل كل ذلك في وقت واحد ولا تتوقف أو حتى تلتفت إلى الوراء للحظة، ثم تستمر في عجلة التغيير وتلامس أكثرها حساسية وخطورة، وهو ما يتعلق بتغيير نمط المجتمع المحافظ المتشدد نوعاً ما بسبب عقود من تغلغل الفكر الصحوي بداخله إلى مجتمع متسامح متطلع للغد، فإن هذا يعني أن العزيمة هي شعار المرحلة.
ثقة الحكومة السعودية بالأبناء والبنات ممن يعمل باستمرار في أروقة الديوان الملكي لمتابعة برامج الرؤية، وقد شاهدت ذلك بنفسي، يدل على أن المستقبل الواعد بأيدي حكومة قوية تتصف بالعزيمة والتصميم وتعتمد على أبناء الوطن.
يعزز ذلك عودة آلاف المبتعثين والمبتعثات لجامعات الغرب والشرق ضمن برنامج الملك عبدالله للابتعاث الذي بدأ يضيف المهارات المتميزة إلى الرصيد المعرفي والمهني داخل الوطن. بمعنى أن المملكة لم تأت بالغرباء ليطوروا منهج الشعب وسلوكياته بل استثمرت في الأبناء والبنات المنتمين لتراب وصحراء الجزيرة العربية.
في معرض الحديث عما يجري داخل السعودية التي تعتبر القلب النابض في المنطقة، وهو الحديث الذي لا يمر يوم في الغرب إلا وتقرأ أو تسمع حوله الكثير من الجدل، خصوصاً مع حملة مكافحة الفساد الأخيرة، يخلص معظم المحللين إلى أهمية تجاوز عنق الزجاجة. والمقصود بذلك قدرة السعودية ونجاحها في تجاوز ظروف العامين المقبلين بالمرونة المطلوبة. إذ في عام ٢٠٢٠، سترى السعودية نفسها دولة أخرى مختلفة عن الماضي بكل المقاييس كما يتوقع خبراء السياسة والتنمية، وهو اختلاف إلى الأفضل بالطبع.
هذا هو الشرق الأوسط الذي تتطلع إليه شعوب المنطقة، وما يحدث في السعودية حدث قبل ذلك في الإمارات ويحدث في مصر وإن بنسب وإمكانات متفاوتة، ويحدث في البحرين والكويت وعمان والعراق، بل وحتى في الداخل الإيراني الذي أعلن غضبه وتململه من حكم ولاية الفقيه. مرة أخرى، شكراً للسيد أوباما وللسيدة هيلاري كلينتون.
نقلا عن موقع الحياه اللندنيه