بقلم : خالد سيد أحمد
تواجه المملكة العربية السعودية حاليا، أشد أزمة فى تاريخها منذ إعلان قيامها فى عام 1932، جراء الضغط الدولى الرهيب الذى يوجه إليها أصابع الاتهام فى قضية اختفاء الكاتب الصحفى السعودى جمال خاشقجى، بعد دخوله إلى القنصلية السعودية فى اسطنبول يوم 2 أكتوبر الحالى.
هذا الضغط الذى تزداد وتيرته وتداعياته يوما بعد يوم، إثر التسريبات الصحفية التركية المتوالية، التى تشير إلى أن «فريق إعدام» سعوديا شارك فى قتل خاشقجى، كما قام بتقطيع جسده من أجل إخفاء الجريمة، رغم عدم وجود أى تأكيدات رسمية لتلك الروايات، سواء من جانب تركيا التى وقعت الجريمة على أراضيها، أو من السعودية التى اعتبرتها «أكاذيب ومزاعم لا أساس لها من الصحة»، كما صرح وزير داخليتها الأمير عبدالعزيز بن سعود بن نايف.
ربما يقلل البعض من شأن هذه الأزمة، ويعتبرها ليست بهذا القدر من الخطورة، مقارنة بأزمة احتلال العراق للكويت عام 1990، عندما كانت قوات صدام حسين على مرمى حجر من الحدود السعودية، الأمر الذى أثار قلقا كبيرا فى «أرض الحرمين»، خشية إقدام الرئيس العراقى الراحل على خطوة مماثلة بحقها.
مخطئ من يترك نفسه أسيرا لهذا التصورغير الحقيقى.. ففى ذلك الوقت كان العالم أجمع مع المملكة قلبا وقالبا ــ باستثناء عدة دول لا يتجاوز عددها أصابع اليد الواحدة ــ. وفى ظرف أيام معدودات، تدفقت على السعودية القوات الأجنبية والعربية من كل حدب وصوب، دفاعا عن سيادتها المهددة من «الجار والأخ القوى»، واستعدادا لتحرير «شقيقتها الصغيرة» من قبضة «جيش النشامى» كما كان يحلو لصدام تسميته.
أما الآن فالوضع مختلف تماما.. فمقدار التعاطف مع السعودية فى قضية اختفاء خاشقجى، يمكن حصره فى بضعة بيانات رسمية لعدة دول من بينها «الصومال»، وكذلك أصوات إعلامية وسياسية عربية اعتادت دائما الالتحاق بركب المملكة ومواقفها، والدفاع عنها فى «الضراء والسراء».. «ظالمة أو مظلومة»!.
هنا يكمن جوهر الأزمة الحقيقية التى تواجهها السعودية اليوم.. فهذا التعاطف المحدود، الذى لم تكن تتوقعه حتى فى أسوأ كوابيسها، كان نتيجة طبيعية لتداعيات «واقعة اسطنبول» المخيفة، والتى نالت من الصورة التى حرصت المملكة على ترسيخها منذ عقود مضت، وهى أنها القلب النابض للعالم الإسلامى، و«قبلة المسلمين، ومهبط الوحى، ومهوى الأفئدة، وأرض القداسة، ومنطلق الرسالة»، كما يردد شيوخها. كما أنها الدولة الأكثر سخاء وعطاء عالميا بتقديمها مساعدات للمحتاجين والفقراء فى مختلف أنحاء المعمورة، و«قائدة العالم الإسلامى» وصاحبة «الدور البارز فى حفظ الأمن ومحاربة الإرهاب وترسيخ السلام والاستقرار فى المنطقة والعالم»، كما يقول سياسيوها!.
لا نستطيع الجزم إن كانت هذه الصورة باتت إرثا من الماضى، لكنها على أقل تقدير، أصبحت عرضة للتشويه والاهتزاز العنيف فى صباح كل يوم منذ أن وقعت الواقعة فى اسطنبول، ومع كل «تسريب» تنشره الصحف التركية عن تفاصيل «عملية القتل»، ومع كل خبر تذيعه قناة الجزيزة القطرية نقلا عن «مصادر مجهولة» بشأن تطورات القضية، وأيضا مع كل تصريح من جانب الرئيس الأمريكى دونالد ترامب، يتضمن «تهديدا بالعقاب» ويتبعه بابتزاز رخيص للمملكة!.
من الوارد جدا تخطى المملكة لهذه الأزمة، إما لفوائضها المالية الهائلة التى ستمكنها من فتح أبواب كثيرة للنجاة، أو لعلاقاتها القوية مع أطراف دولية لا تزال ترى فيها حليفا ينبغى عدم التفريط فيه، لكن فى كل الأحوال فإن «مملكة ما بعد خاشقجى»، لن تكون هى نفسها المملكة التى عهدناها من قبل!.
فى أوقات الأزمات والمحن والعواصف السياسية العاتية، تبرز فرص تاريخية، قد تكون «قليلة نسبيا»، لكن من يضع يده عليها ويقتنصها، يستطيع بلا شك تغيير مجرى التاريخ. المملكة الآن أمامها هذه الفرصة ويجب عليها عدم التردد فى اقتناصها، حتى تستطيع النجاة من هذه الأجواء الحالكة والمهلكة.. ما يجب فعله، هو أن تقف المملكة وتسأل نفسها صراحة.. من أوصلنا إلى هذا «المنزلق الخطر؟». إذا تمكنت من الإجابة تستطيع مع مرور الأيام معالجة التشوهات التى لحقت بصورتها، وإذا لم تفعل.. فالمقبل لن يكون أقل غيوما من الحاضر!.
نقلا عن الشروق
المقال يعبّر عن رأي الكاتب وليس بالضرورة رأي الموقع