■ صديق ونجيب
فى الفصل الثامن من مذكراته والذى يحمل عنوان «التحول إلى الديكتاتورية» يستغرق رئيس الجمهورية الأسبق محمد نجيب فى شرح «مقدمات المؤامرة التى تعرض لها» ابتداءً من فبراير 1953 على أيدى عبدالناصر ورفاقه، وكيف تحمس الوفد والشيوعيون للتخلص من الصوت الديمقراطى فى الثورة، وكيف وقف الإخوان يتفرجون، وهى أحداث انتهت بإقالة نجيب وتحديد إقامته بالمرج فى نوفمبر 1954. لفت نظرى، اهتمامه الزائد بما تعرض له يوسف صديق عضو مجلس قيادة الثورة، بل صاحب الفضل الأول فى نجاحها، والذى كرمه الرئيس هذا الأسبوع فى ذكرى ثورة يوليو.
«كان صديق شيوعيًا لكنه دستورى يرفض الاعتقالات، ويدعو لانتخابات برلمانية. يرفض إلغاء الأحزاب والرقابة على الصحف». هكذا كتب نجيب فى مذكراته. ويضيف: أذكر أن جمال عبدالناصر عندما كان مديراً لمكتبى كان يحذرنى منه ويقول لى: خذ حذرك.. فيوسف صديق شيوعى كبير. وأكثر من واحد فى مجلس القيادة قال لى: «يوسف» شيوعى يريد أن ينحرف بالثورة للاتجاه الآخر. ولم يكن هذا الكلام ليؤثر علىَّ، خاصة أننى أحترم حق كل إنسان فى أفكاره وعقيدته، وكنت أداعبه وأقول له مازحًا، كلما رأيته: أهلا بالرفيق «يوسف ستالين»!.
الطريف أننى قد أنهيت قراءة مذكرات محمد نجيب «كنت رئيسًا لمصر» وأنا فى إجازة المصيف الشهر الماضى. الكتاب ظل فى المكتبة لسنوات طويلة، ولم أنتبه إليه إلا مع عودة الاهتمام الرسمى بمحمد نجيب وتكريم اسمه العام الماضى، وإطلاق اسمه على أكبر قاعدة عسكرية بالمنطقة الغربية وقد زرتها مرتين. عدت مرة أخرى إلى المذكرات لأقرأ ما كتبه هو عن يوسف صديق.
ولفت نظرى ما يؤمن به الاثنان من ضرورة الديمقراطية، وعودة الجيش إلى الثكنات، وإقامة حياة حزبية ونيابية سليمة واختيار رئيس من خارج الجيش، وهو إيمان انتهى بمأساة للاثنين. وقد قرأت أكثر من تقرير عن يوسف صديق من ضمنها «البروفايل»الرائع الذى كتبته زميلتى نورهان مصطفى فى المصرى اليوم، ووجدت أفكاراً فى ذهنى صنعتها هذه المعلومات وكذلك ما يحمله تكريم نجيب العام الماضى، ويوسف صديق هذا العام، أبرزها سيناريو تخيلى عن مسار الأحداث لو انتصرت الإدارة الديمقراطية فى قيادة الثورة، وماذا لو عادت الأحزاب حينها للنور، ورضى الضباط الأحرار بالعودة لثكناتهم. أتخيل واقعًا مختلفًا تمامًا. جميع ثورات الربيع العربى جرت فى جمهوريات شهدت ثورات وانقلابات، ولم تتم فى دول ملكية. عبدالناصركان زعيمًا وطنيًا رائعًا، لكن لم يكن مؤمنًا بالديمقراطية ولا بالحريات، ومن جاء بعده مضوا فى نفس الطريق، بينما كان هناك دول أقل شأنًا من مصر خرجت من فقرها وجهلها إلى النور والحرية.
ويبقى تساؤلى الأخير وأوجهه إلى «العقل الرائع» الذى اختار تكريم نجيب ثم صديق وأساله عن مغزى الاختيار وفلسفته، وهل هو فقط العدل وإنصاف كل مظلوم فى سيرته وتاريخه، أم أننا بصدد الاستفادة مما تحمله هذه الأحداث من حكمة ودروس!.
■ الشائعات وعددها
لا أعرف من الذى حدد عدد الشائعات التى ترددت مؤخراً، وبأنها فى حدود 21 ألف شائعة معظمها انتشرت عبر الوسائط الاجتماعية. وإذا كان الرئيس هو بنفسه الذى قالها وفى خطاب سياسى كبير خلال حفل تخرج الكليات العسكرية وذكرى ثورة يوليو فإن الرقم محسوب بدقة من جهة سيادية ما. اللافت أن حديث الرئيس تواكب مع حملات مضادة تقوم بها الفضائيات الرسمية وشبه الرسمية لتفنيد عدد من هذه الشائعات.
لاحظت بالطبع أنها لم تتجاوز فى عددها سبع أو ثمانى شائعات، لكن هذه قصة أخرى. ما شغلنى، الجهة التى حسبت كل هذا العدد الضخم من الشائعات، وكان لديها الجرأة أن تقدم الرقم رأسًا للسيد الرئيس. لجأت إلى عدد من الأساتذة المتخصصين بشكل مباشر، أو من خلال متابعة ما كتبوه عن هذه القضية، فلم أجد ما يفيدنى أو ما يجيب عن تساؤلاتى المشروعة من صحفى يهتم بالمعلومات ورصدها وتحليل مصداقية مصادرها. أحد الأساتذة قال لى إنه ربما يكون خبراء من جهة ما قد رصدوا التداول الرقمى لعدد من الشائعات على مدار فترة زمنية محددة، أو قد تكون الشائعة الواحدة قد تحورت أو انقسمت على طريقة الخلايا السرطانية إلى عشرات بل مئات الشائعات، التى هى من منبع واحد ثم تكاثرت. علمت من صديق محترم أثق فى معلوماته، خاصة أنه عمل كمدير تنفيذى لإحدى المؤسسات الإعلامية العملاقة التى ظهرت على سطح الأحداث مؤخراً، أن هذه المؤسسة لديها شركة متخصصة بها شباب دارس بشكل حديث لآلية عمل وسائل التواصل الاجتماعى، وأنهم مدربون على رصد وتحليل ما يتم بثه من أخبار ومعلومات وشائعات فى كافة المجالات. وأنهم أحيانًا يتولون «الرد الممنهج» على هذه الحملات. يستهدفون أسماءً ومواقع وأحداثًا بعينها. يروجون لوقائع إيجابية يملأون بها الساحة عند الضرورة. قال لى هذا الصديق: لا أعلم إن كانت هناك مؤسسات أخرى لديها نشاط مماثل أم لا.
وإذا كان لى نصيحة هنا، بعد كل ما ذكرته، وكتبه زملاء غيرى، فأرى أن الأجواء المشجعة والمحفزة للشائعات موجودة. ولن يصلح معها هذه الإدارات المركزية لتحديد ما هو حقيقى وصالح، وما هو فاسد وخاطئ. تجاوزنا زمن الإعلام الموجه والصوت «الابوى». جعلتنا وسائل الإعلام الدولية العابرة للحدود ثم الوسائط الاجتماعية أقزامًا أمام أنفسنا وقرائنا ومشاهدينا.
عندما نفقد مصداقيتنا فلن يصبح لنا أى تأثير، ستكون الساحة مفتوحة فقط أمام الأفاكين معدومى المهارة والموهبة، أو لأصحاب الشائعات وما أكثرهم فى الداخل والخارج. كان الصوت المعارض أو المستقل فى الإعلام المصرى هو الأكثرحرصًا للوصول إلى الحقيقة. حافظوا على أصحاب هذه الأصوات أيًا كانت مواقفهم أو صفاتهم، فهم حائط الصد الأساسى ضد الشائعات.
■ البحوث الجنائية
أين المراكز البحثية وخاصة المركز القومى للبحوث الاجتماعية، من الحوادث الأسرية الغريبة التى حدثت مؤخراً، مثل حادث الطبيب الذى عذب ابنه حتى الموت، وحادث أطفال المريوطية. أتذكر وأنا فى بداية حياتى الصحفية، كنت أنا وغيرى من الزملاء المهتمين بالتحقيقات والمتابعات كثيراً ما نلجأ إلى المركز مع مثل هذه النوعية من الحوادث. تذكرته وطافت فى عقلى عشرات الأفكار التى يمكن أن يتم مناقشتها مع خبراء الاجتماع والجريمة حول الحوادث الأليمة. لقد انطفأ الشعاع الصادر من هذا المركز تمامًا. غاب خبراؤه وأساتذته عن الساحة إما بالتقصير منهم أو بانشغال الإعلام بقضايا أخرى.
هذا المركز أسسه علماء اجتماع أفاضل، ومكتبته زاخرة بالدراسات الاجتماعية والجنائية المهمة للغاية. انحسر دوره بشكل تدريجى. كان لديهم قسم محترم لبحوث الرأى العام، أشرف على دراسة- أيام السادات- عن توجهات المصريين تجاه السلام مع إسرائيل. وكانت التعليمات القادمة لقيادات المركز أن تكون النتائج إيجابية جداً وتشبه استفتاءات هذا الزمن.. وقد كان. فلم يثق فى هذا القسم باحث أو طالب أو مواطن بعد هذه الدراسة. لكن بقى دور رائع لخبراء البحوث الاجتماعية والجنائية. تعرفت هناك على خبراء يحللون الجرائم- البسيط منها والمعقد- بشكل علمى يتواكب مع ما توصلت إليه المراكز العلمية. كان هذا قبل عشرين عامًا على الأقل. الآن لا أدرى ما حالهم. كل الذى أطلبه من خبراء المركز وغيره من علماء الاجتماع والجريمة الإجابة وبصوت علمى على مجموعة من الأسئلة متعلقة بالسلوك العام للمصريين، وهل أصبحنا أكثر تحرراً من القيم العامة، كيف يجمع كثير من المصريين بين مظاهر التدين الشكلى المبالغ فيها وأنماط السلوك السلبية. وهل جريمة المريوطية قابلة للتكرار، وهل هى ناقوس خطر أم فى معدلها الطبيعى؟.
نقلا عن المصري اليوم
المقال يعبّر عن رأي الكاتب وليس بالضرورة رأي الموقع