حضرت نحو ثلاثين احتفالية رئاسية للمشروعات القومية العملاقة خلال الأربع سنوات، وهى عمر الولاية الأولى للرئيس. معظمها شهدته الخيمة المتميزة التى تديرها «إدارة الشؤون المعنوية»، قدمت هنا رؤيتى- أو ما أتمناه- فى الولاية الثانية اقتصاديًا وسياسيًا للرئيس. تذكرت وأنا فى هذه «الخيمة» عدة حكايات حول «الصوبات الزراعية»، واسترجعت ما حدث بين الدكتور يوسف والى والأديب الراحل يوسف إدريس بشأنها.
تحدثت سريعًا عن أزمة أمانى الخياط وما قالته عن سلطنة عُمان، وسردت معلومة سريعة عن وزير التنمية المحلية اللواء أبوبكر الجندى. وختمت بذكرى ثورة يناير.. وتنحى مبارك.
خيمة «الرئيس»
أصبح للافتتاحات الرئاسية للمشروعات الكبرى طقوسٌ فريدة فى عهد السيسى تميزه عن باقى الزعماء فى الدول الأخرى وعن الرؤساء السابقين.. مبارك كان يزور المصانع والمدن الجديدة بنفسه. كان يفتتح معرض الكتاب كل عام، يلتقى قادة الأحزاب ويحاور أساتذة الجامعات. السيسى يثق فى تنظيم القوات المسلحة ممثلة فى إدارة الشؤون المعنوية لهذه الاحتفالات. ينيب ضباطًا من الإدارات المختلفة لافتتاح المشروعات أو وضع حجر الأساس بالفيديو كونفرانس، بينما هو جالس وسط كبار رجال الدولة وممثلى وسائل الإعلام وطلاب الجامعات. اقترحت أمس على إحدى الزميلات المذيعات فى قناة دولية أن تجهز موضوعًا خفيفًا «فيتشر» عن «خيمة التوجيه المعنوى» التى تستضيف دائمًا مثل هذه الافتتاحات. قدرت، وأنا ضمن الحضور داخل قاعدة محمد نجيب قرب مدينة «الحمام» فى مطروح لمتابعة افتتاحات المرحلة الأولى من مشروع الزراعات المحمية العملاق، قدرت أن هذه الخيمة تحركت فى أنحاء مصر من الشمال إلى الجنوب، ومن الشرق حيث عمق سيناء وصولاً إلى المنطقة الغربية، لنحو ثلاثين مرة على مدى الأربع سنوات الماضية. مشروعات عملاقة تضاف لرصيد مصر ويباهى بها السيسى فى كل مكان، وهى عنوانه الرئيسى فى الانتخابات الرئاسية التى ستجرى بعد أسابيع معدودة. أتمنى عناوين جديدة للفترة الرئاسية الثانية، يكون شعارُها تواصلاً أكثر مع جميع فئات الشعب، سواء أكان ذلك داخل نفس الخيمة الجميلة بألوانها المبهجة المريحة حيث يختلط فيها اللونان الأزرق والأبيض، أو خارجها.
فى صالونات ومكاتب القصر الجمهورى أو داخل المكاتب الرسمية فى الجامعات والوزارات، لقاءات مع الكتاب والأكاديميين والإعلاميين. التواصل المباشر مهم. أتمنى أن يستمع الرئيس لقيادات الأحزاب حتى لو كان دورهم السياسى متراجعًا بفعل عوامل عديدة. حوارات مع شباب مختلفين من خارج مؤتمرات الشباب. تواصل حقيقى وصادق مع رجال الإعلام على كل توجهاتهم.
أتمنى أيضًا أن يكون للفترة الرئاسية الثانية للسيسى منهج فكرى واقتصادى شامل. أتمنى أن يجيب الرئيس أو أحد مساعديه عن تساؤلات عديدة- معظمها غربى- حول هوية النظام الاقتصادى الذى نسلكه الآن. وهل باتت المشروعات القومية العملاقة، التى تمتلكها شركات تابعة للدولة متمثلة فى «القوات المسلحة»، بديلاً للقطاع العام القديم، أو هى إعادة تقديم لقطاع الأعمال الحالى؟.. أنا أعرف الدوافع الاستراتيجية للاستعانة بـ«جهاز مشروعات الخدمة الوطنية» فى الظروف الحساسة الحالية، ولكن تعاظم الدور الاقتصادى لهذا «الجهاز» وتغلغله فى كل الأنشطة يستدعى صياغة فكر اقتصادى نتعامل به مع شركائنا فى الخارج ومع القطاع الخاص بالداخل. الرئيس نفسه قدم تطمينات- الخميس الماضى- بهذا الشأن. وطلب من قبل تسهيلات للمقاولين من القطاع الخاص العاملين فى مشروعات القوات المسلحة.
«صوبات» والى
.. وأنا فى «الحمام» أيضًا، تذكرت عدة مقالات لـ«نيوتن» فى «المصرى اليوم» خلال الفترة الماضية، عن إدارة ثروتنا المائية بأسلوب عصرى. واعتماد وسائل حديثة للرى فى الأراضى القديمة بالدلتا، وإنهاء الأسلوب العقيم المتمثل فى «الرى بالغمر»، والذى يستهلك كميات هائلة من مياه النيل ويضعف التربة.
تذكرت أيضًا ما رصدته بنفسى ورأيته فى بلدنا بريف الدقهلية الأسبوع الماضى فقط من تعثر لمشروع «الرى الحقلى» والذى اعتمدت له الحكومة مئات الملايين من الجنيهات هى عبارة عن منح أجنبية ومخصصات محلية. نعم، «المشروع» فى طريقه لكى يصبح جثة هامدة تمامًا.
ربطت أيضًا بين توقيت الكلمات المحترمة والمسؤولة من الرئيس حول أهمية توفير المياه وتدوير مياه الصرف المستخدمة فى رى «الصوب»، وبين إدارة مصر الهادئة والحازمة لملف سد النهضة.
تذكرت أيضًا واقعة طريفة وقديمة حول الصوب «الزراعية» فى منتصف الثمانينيات من القرن الماضى، وكانت على ما أتذكر خلال أول موضوع صحفى أقوم بتغطيته فى حياتى الصحفية. كان الدكتور يوسف والى نائبًا لرئيس الوزراء ووزير الزراعة، وفى نفس الوقت أمينًا عامًا للحزب الوطنى. كان الرجل يواجه حينئذ حملة صحفية وسياسية شرسة تقودها صحف المعارضة، وعلى رأسها جريدة «الشعب»، لسان حال حزب «العمل». وفى هذه الأثناء، روج والى وخبراء وزارته لمشروع عملاق لاستيراد «صوب زراعية» تكون مخصصة لزراعة الفراولة والكنتالوب إضافة إلى الخضروات. هوجمت سياسات الرجل بالطبع، وقيل إن شركات إسرائيلية تقف وراء المشروع، وفجأة انضم الأديب الدكتور يوسف إدريس إلى الحملة ضد «والى»، وذلك بمجموعة من المقالات الرائعة فى أسلوبها ومضمونها وحرفيتها، بصحيفة «الأهرام»، كان عنوانها «ليس بالكنتالوب وحده». فى هذه الأثناء، دُعيت وأنا الصحفى الشاب المتدرب لتغطية فعاليات عدة ندوات بوزارة الزراعة لمساندة الوزير وسياساته «وصوبه». لكن لم يفلح دفاع العلماء ولا منطقهم بالطبع فى وجه هجوم «إدريس».. وتعثر المشروع. وأمس الأول، وأنا أستمع إلى كلمات الوزير عبدالمنعم البنا- الرئيس الأسبق لمركز البحوث الزراعية- وكذلك للواءات الفاهمين لفوائد «الصوب» قررت أن أسترجع هذا الموقف، ليس دفاعًا عن «والى» ولا عن «صوبه»، ولكن تسجيلاً لوقائع صحفية وتاريخية عشتها. الرجل «له ما له وعليه ما عليه». هو كان سياسيًا محنكًا. قدم الكثير من الخدمات فى ملف العلاقات مع السودان وليبيا. أعرف ذلك جيداً. وليته يتكلم أو يكتب عن ذلك فى هذه الظروف الحساسة. له أخطاء بلاشك فى مسيرته مع الحزب الوطنى وفى «تمييع» الحياة السياسية الحزبية، وفى انتشار العشوائيات، وبخاصة حول الرقعة الزراعية. ولكنَّ للرجل، رغمًا عن هذا، أيادىَ بيضاء فى حقول عديدة.. والمطلوب إبرازُها ولو بعد حين.
موهبة «أمانى»
لو قرأت أمانى الخياط أى كتاب عن تاريخ الخليج العربى وتعمقت فى بضع صفحات منه عن تاريخ سلطنة عمان، ولو بحثت على «جوجل» وكتبت «تاريخ أسرة البوسعيد» وكيف وصل حكم هذه الأسرة إلى شرق أفريقيا فى «زنجبار» تنزانيا الحالية.. لكانت كفتنا هذه «الهرتلة» والأخطاء بحق هذا الشعب الشقيق.. وهو ما استوجب توضيحات واعتذارات عديدة، فيما كان الرئيس فى منتصف زيارته الناجحة هناك. أزمة «أمانى» أنها تصدّق نفسها. وتطلب من جميع المشاهدين أن ينزلوا أو يحلقوا فى مستوى ذكائها الفذ. لاحظت وأنا أشاهد الدقائق الخمس التى تتحدث فيها عن «عُمان»، وكان ذلك على «يوتيوب»، أننى أتعلم من مزيج فريد لمؤرخة وسياسية وخبيرة استراتيجية ومسؤولة فى المخابرات البريطانية والأمريكية عن وظيفة «عُمان» الحالية. حقائق مطلقة وتقريرية عن البلد العربى، لا تقبل الجدل أو التشكيك. لديها استرسال وحضور غير مسبوق تتراجع أمامه «كاريزما» توفيق عكاشة وأحمد موسى معًا.
أزمة أمانى- ومن هم على شاكلتها- أنهم بلا رقيب. لا يوقفهم أحد عند حدودهم القانونية أو المهنية. حتى عندما أساءت إلى شعب عربى شقيق هو «المغرب»، وجدت من «يمتص» هذا الهجوم ويعيدها إلى الشاشة من جديد، فَهِمَتْ حينها الرسالة بشكل خاطئ. الأزمة هذه المرة أنها تتحدث من نفس المنصة «أون تى فى» ولكنها باتت شبه رسمية الآن، وكلنا يعلم ذلك! المطلوب الآن: قرار رسمى من المسؤولين عن «تشغيل» أمانى وإخوانها بإيقافهم عن العمل بشكل مؤقت أو دائم- وعمل استبيان «سرى» ودقيق حول هذه الخطوة، وهل استراح الرأى العام بغيابهم أو أن هناك مطالبات بعودتهم إلى شاشاتهم. صدقونى كثير من المصريين- وأنا منهم- ستبهجهم هذه الخطوة.
وزير «الأرقام»
عدد كبير من وزراء الحكومة الحالية لديهم ثقافة واسعة. سواء أكانوا من طبقة التكنوقراط «الأكاديميين» أو القادمين من المؤسسات السيادية كالجيش أو الشرطة أو المخابرات. يقرأون ويفهمون ويتواصلون. الوزير اللواء أبوبكر الجندى، وزير التنمية المحلية- وحده- نموذج ومثال يحتذى به للمسؤول التنفيذى المثقف، وفى نفس الوقت لديه ذكاء اجتماعى.
يقرأ مقالات الرأى فى كل صحيفة وموقع، حتى للمختلفين معه فى الرأى. يتواصل مع الجميع. يهنئ المجتهد، ويعاتب بلين ورفق من يخالفه الرأى. أعتقد أن شخصيته هذه ستنعكس بالإيجاب على أدائه كوزير للمحافظين. نتمنى له أن يخترق بهِمَّة وشجاعة ملف «فساد المحليات». سمعنا كثيراً عن هذا «الفساد»، ولم يخترقه أحد بنجاح حتى الآن. هل نحتاج منظومة تشريعية ورقابية جديدة؟ هل «البداية» براتب العامل والمهندس البسيط فى الحى وصولاً للمحافظ الذى تنهال عليه المدائح ووصلات النفاق، التى تزين للعديد منهم باب السرقة والانحراف؟ من الممكن أن يساعد «الإعلام» فى هذا الجانب. سمعنا عن البيانات المتواترة، عن كشف الفاسدين هنا وهناك، خاصة فى المحليات، بدون تقديم معالجة سياسية وإنسانية تحد من «الظاهرة». وبالمناسبة، أوجه عدة أسئلة للصديق الوزير «الجندى»: هل هناك مجاملة متوقعة ستحدث فى حركة المحافظين الوشيكة، وتتسع نسبة القادمين من الجيش والشرطة على حساب السياسيين المدنيين؟ هل ما يتم ترويجه حول وجود تقارير تؤكد أن معظم حالات الفساد المضبوطة كان أبطالها قادمين من «المحليات» والإدارات المدنية فى الوزارات وليسوا من لواءات الجيش والشرطة السابقين، سينعكس على خريطة الحركة؟ أعترف- عن تجربة- أن حالة التناغم والاندماج و«السطوة» الآن فى صالح المحافظين القادمين من جهات سيادية على حساب المحافظين «المدنيين». أتمنى كل الخير والتوفيق للوزير الجندى، وأن يستغل- وهو وزير الأرقام القادم من جهاز الإحصاء- المعطيات المتوافرة فى ذاكرته حول «التنمية» و«الفقر»، وأن يتقدم خطوة أو أكثر للأمام فى مواجهة الفساد.
ذكريات «ثورة»
قبل سبع سنوات كاملة، وبالتحديد يوم 12 فبراير 2011، أى بعد يوم واحد من تنحى مبارك، نشرت مقالاً مؤثراً فى «المصرى اليوم» وتلقيت اتصالات عديدة بشأنه، كان عنوانه «جدى الحبيب: هل قتلت أحفادك؟».. كان عبارة عن قصة قصيرة أو رسالة من العالم الآخر بعثها حفيد الرئيس، محمد علاء، يسأله فيها عن شهداء الميدان من الشباب، ومَن المسؤول عن وفاتهم. أنا كنت من الذين أحزنهم خبر وفاة هذا الطفل، بل إننى بعثت ببرقية عزاء لعلاء مبارك، لكن فى موجة الثورة وفى حلمها الأخاذ بعثت أيضًا بهذه الرسالة المؤثرة للجد حسنى مبارك. وسؤالى، اليوم، إلى نفسى: هل لو عاد بى الزمن سأكتب نفس الرسالة لمبارك أو لأى رئيس قادم وأنا أرى حلم الثورة قد تبخر؟
وأجيب: أنا مازلت مؤمنًا بثورة يناير، وأنها أعظم تحرك للشعب المصرى فى تاريخه الحديث.. وهى لم تؤتِ ثمارها بعد. ربما لن تثمر على الإطلاق. لكن الشباب الذين تحركوا وخرجوا للميادين هم أجمل وأنبل من أنجبت مصر.
وسؤالى الثانى: هل كنا أفضل مع مبارك؟ أستمع كثيراً، فى الشوارع وعلى المقاهى وفى العمل ومن بسطاء قريتنا، إجابات متفاوتة الدقة حول صعوبة عناصر الحياة من خدمات وأسعار ورواتب وغيرها، وأنها كانت أسهل مما هى عليه الآن. مناخ الحريات وأوضاع حقوق الإنسان تدور حول نفسها. حوادث الإرهاب زادت وتيرتها رغمًا عن ثقتنا وتفويضنا للقيادة العليا بمواجهته. فى المقابل، أنا مازلت مؤمنًا بأن هناك بقية للطريق. الثورات طريقها طويل. ولا عودة للخلف. من يعيدنا على طريقته سيضيع هو. تجارب الإنسانية شرقًا وغربًا تؤكد ذلك. المطلوب ألا نكرر أخطاء الآخرين أو نبتكر أخطاء فريدة وجديدة. مازلت مؤمنًا بالثورة. مازلت أترحم على شهدائنا فى ميادين يناير مثلما أترحم الآن على شهداء مصر فى معركتها مع الإرهاب.
أرواحهم لم تصعد لخالقها سُدى، وأنه رغم كل الأحكام النهائية فإن الحقيقة الكاملة المطلقة لم تظهر بعد. ستظهر وثائق جديدة. وسيُكتب تاريخٌ حقيقى ومختلفٌ عن ثوراتنا، لا يتأثر بقائد أو زعيم.
نقلا عن المصري اليوم