ثلاث «حكايات» فى مقال هذا الأسبوع، جاءتنى أفكارها من داخل احتفالية تدشين حقل ظُهر العملاق للغاز.
توارت قصة الـ13 مليار دولار، استثمارات مصر فى هذا الحقل، وكذلك مَقدرة مصر على الاكتفاء الذاتى من «الغاز» نهاية العام المقبل مع تمام إنتاجه، لتقفز إلى عقلى رسائل الرئيس وهو «غاضب» من المشهد السياسى الحالى.. وتساءلت هنا: ماذا أغضب الرئيس؟. كتبت أيضًا عن كلمات الرئيس الدافئة بحق المهندس شريف إسماعيل، وكذلك رسائل الرئيس عن العلاقات مع إيطاليا والاستمرار فى فتح ملف ريجينى.
وكتبت سريعًا عن أقسام العناية المركزة بالمستشفيات. وأنهيت برأىٍ متواضع جداً عن الدكتور عبدالمنعم سعيد.
«لماذا غضب؟»
صَمْتٌ طويل من الحضور الذين ملأوا القاعة، تبعت ذلك وشْوشات متقطعة وخائفة بمضمون واحد: لماذا تعصَّب الرئيس فجأة، ونقل دفة كلامه من «حقل ظُهر العملاق وخريطة الأمل والاستقرار لمصر» إلى ذكريات- معظمها مؤلم- عن «السبع سنوات الماضية»، لماذا تغيّر لون الرئيس وهو يتذكر تفويض الجماهير له ليواجه الإرهاب، ويحذر من إمكانية «طلب هذا التفويض مجدداً». مَنْ أغضب الرئيس؟.. كان هذا هو صيغة السؤال الثانى، الذى تكرر فى «وشْوشات» و«همْهمات» الحضور داخل المحطة الأرضية لحقل ظُهر قرب بورسعيد الأربعاء الماضى. لم أجد إجابة وافية لسؤالى، رغم أنه تم توجيهه إلى عدد كبير من الزملاء الإعلاميين، وعدد من البرلمانيين والسياسيين والمسؤولين الأمنيين. تنوّعت الإجابات وتفرعت، وذهب كل واحد- وأنا منهم- إلى تفسيرات وسيناريوهات عديدة. لكن كان هناك إجماع على أنهم لم يروا الرئيس فى هذا الغضب من قبل. انفعالاته جاءت عنيفة ومخيفة، وهناك عدد من المصطلحات و«الجُمل» فى حاجة إلى توضيح وتفسير حتى لا يُساء إلى المناخ السياسى العام فى مصر والذى يعانى الضعف والهوان حاليًا.
«الرئيس مرشح رئاسى، صحيح أنه لا يوجد لمنافسته إلا مرشح محدود الكفاءة، لكن لهجة الرئيس خطيرة جداً، إن كان ما يقصده فى كلماته سببه بعض الأصوات التى دعت إلى مقاطعة الانتخابات الرئاسية». هكذا قال عدد من الزملاء، وأنا اتفق معهم. نشرنا بيان «الحركة المدنية الديمقراطية» حول مقاطعة الانتخابات. نشرنا أيضًا بيان المرشحين السابقين حول موقفهم من سير العملية الانتخابية، ووجود عدد من التجاوزات والأخطاء فيها، وتحيّز مؤسسات الدولة والأجهزة الأمنية للرئيس، لكننا رفضنا أن نشير أو نتعامل مع بيان الإخوان حول «الانتخابات البديلة»، سواء على المستوى البرلمانى أو الرئاسى. نحن نؤمن بالدولة وبتماسكها، ونعلم جيداً «يعنى إيه دولة». نؤمن بدستورنا وبأهمية الاستقرار وبثمن الفوضى. نؤمن بأن الحياة الديمقراطية السلمية والتعددية السياسية وانتقال السلطة وفقًا للضوابط الليبرالية هى العنوان الرئيسى للتقدم. ولأننا نحترم منصب الرئيس وقدسية الكرسى الذى ينبغى ألا يصل إليه «فاسد» أو «منعدم الكفاءة»، ونرفض منطق الإرهابيين والمتطرفين، نشرنا بيانات «الحركة المدنية» ورموزها، ورفضنا بيانات الإخوان عن الانتخابات.
كنت أرى أن الرئيس وهو يتحدث عن الاستقرار والإنجاز ومزيد من النجاحات فى القطاعات الاقتصادية، خاصة فى البترول والغاز وفى حضور ضيوف أجانب من إيطاليا وبريطانيا وروسيا، والعالم كله يتابع هذا الإنجاز، كنت أرى أنه ما كان ينبغى أن يتعصب هكذا وبدون توضيح مبررات غضبه. من يتابعوننا- ومنهم من تمت ترجمة كلمات الرئيس إليه- لا يفهمون إلا منطق المعلومات والقرائن. لديهم قناعات مشتركة حول الانتخابات الحرة، وإنه لا قدسية لأى سياسى، ابتداءً من الرئيس نفسه، وانتهاءً بأصغر عضو تنفيذى أو منتخب فى مدينة صغيرة.
أعتقد أن الرئيس أو أحداً من مساعديه عليه أن يشرح أسباب ثورة الغضب هذه. وهل وراء ذلك دعوات المقاطعة والحدة التى خرجت بها كلمات حمدين صباحى، وهل كان يقصده الرئيس صراحة حين أشار إلى من «رسب من قبل ويريد النجاح الآن»؟. معلوماتى أن «صباحى» رفض خوض الانتخابات، وكان أسرع من نَفَى معلومات مصطفى بكرى المتناثرة حول هوية المرشح المنافس للرئيس. هكذا هى لهجة «صباحى»، لا جديد فيها. رجل لا غبار على تاريخه منذ جادل الرئيس السادات وحتى الآن. يمكن الرد عليه من مسؤول فى حملة الرئيس أو التغاضى عن ذلك تمامًا. وحين تنتهى الانتخابات تكون هناك لهجة تصالحية من الرئيس. أتمنى أن تمر هذه المرحلة على خير، وألا نشهد إجراءات استثنائية إضافية، كما فهم البعض من كلمات الرئيس. أدعو إلى بيان مقتضب بهذا الشأن.
«ظُهر» إسماعيل
رأيت الدموع فى عيون صحفيين وسياسيين حين تحدث الرئيس، ولنحو ثلاث دقائق كاملة، بحميمية وحب عن المهندس شريف إسماعيل، رئيس الوزراء. الرئيس قال: «هو من أفضل الناس، وإحنا لو ما قدّرناش المهندس شريف إسماعيل فربنا هيقدرك»، «فهو دائمًا على قدر المسؤولية». و«هو أول من جاء لى بخبر هذا الحقل (ظُهر) عندما كان وزيراً للبترول». وبعد نهاية الاحتفال، قدم الرئيس، إسماعيل، لإزاحة الستار عن الحقل.
لا يربطنا فى «المصرى اليوم» بالمهندس شريف إلا كل الاحترام والود. جمعتنى به نحو أربعة مؤتمرات وندوات صحفية مطولة. لمحت من اللقاء الأول دقة الرجل واعتماده لغة الأرقام. لا يبالغ ولا يهوّل. لا يغضب ولا ينفعل.. يحب عمله، ويحرص على إنجاز المهام المطلوبة منه فى أصعب الظروف. علمت أنه ظل فى مكتبه لما بعد التاسعة مساءً فى الليلة السابقة لسفره فى رحلة العلاج. وفى الصباح الباكر كان فى الطائرة المتجهة لفرانكفورت لبدء رحلة العلاج، التى انتهت بإجرائه عملية دقيقة.
استضافنا مع ستة وزراء من المجموعتين الاقتصادية والخدمية لمجلس تحرير «المصرى اليوم» وعدد من كتابها قبل سبعة أشهر.
فى سابقة صحفية وحكومية خلال اللقاء، سهّل علينا- الدكتور عبدالمنعم سعيد رئيس مجلس الإدارة وأنا- مهمة إدارة الندوة، ووزع أسئلة الزملاء على الوزراء، كلٍّ فى تخصصه بدقة وتركيز. لم يترك سؤالاً- ولو بسيطًا- دون رد. تجاوزت الندوة يومها حدود الوقت المسموح لها بأربع ساعات كاملة. خرج الجميع يومها بانطباع مغاير. وأن هذا الرجل يستحق ثقة الرئيس. ولولا هدوؤه ونظافة يده ومنطقه العاقل فى تقديم خطوات «الإصلاح الاقتصادى» للرأى العام، ما مرت مراحله الصعبة بخير وسلام.
كان الرئيس الأسبق حسنى مبارك يُثنى بشكل خاص على رئيس وزرائه عاطف صدقى، ويفضله على باقى من عملوا معه فى هذا المنصب. والرئيس السيسى يقدر المهندس إبراهيم محلب، وأوكل إليه العديد من الملفات الحساسة والساخنة فى الداخل والخارج. لكن دفء الكلمات التى قالها الرئيس بحق شريف إسماعيل تجاوزت كل هذه المواقف بمراحل. أطيب الأمنيات له. ودعاء من القلب له بتمام الصحة والعافية.
«الرئيس وريجينى»
بعد كلمات الرئيس القوية عن الباحث الإيطالى الراحل جوليو ريجينى، أتمنى أن يتم التعامل مع الملف ابتداءً من هذا التاريخ بمنطق مختلف تمامًا. إدارة واحدة لهذا الملف الحساس. المطلوب البناء على ما قاله الرئيس وعدم المبالغة والاطمئنان بأن الإيطاليين باتوا أصدقاءنا، ولن يتم تصعيد موضوع ريجينى مجدداً.. أو سيتم إغلاقه. السوابق فى هذا المجال- محليًا ودوليًا- تؤكد عكس ذلك. تبقى مثل هذه الملفات سيفًا مصلتًا فوق الرقاب، يتم تحريكه عند اللزوم. كلما زاد التنسيق المصرى- الإيطالى، سيتم التلويح بالقضية من جهات بعينها باتت شبه معلومة للجميع. سيتم التلويح بملف حقوق الإنسان والاختفاء القسرى، لذلك مطلوب تحريك هذين الملفين من ركودهما الحالى. مطلوب أيضًا، تجاوز المواقف والبيانات المتناقضة بشأن ما حدث.
ودائمًا ما أربط بين مسار قضية ريجينى، ومسار التعاون المصرى- الإيطالى بشأن حقول الغاز، انتهاء بحقل ظُهر. ولا أستبعد دائمًا فى منطقى هذا وجود طرف بريطانى ثالث. استغل الباحث الراحل، الطالب فى جامعة بريطانية، نشاطه وانغماسه فى مجتمع العمال فى فترة السيولة السياسية ما بعد الثورة. أربط بين التجميد فى علاقات لندن بالقاهرة- فى هذه الفترة على المستويين السياسى والاقتصادى، خاصة البترول- وإعلان «إينى» والقاهرة عن حقل «ظُهر». أربط أيضًا بين زيارة وفد إيطالى رفيع فى هذه الأثناء والكشف عن مقتل ريجينى فى نفس التاريخ.
ما كتبته مجرد «تربيط معلوماتى من صحفى اهتم بالقضية وبمسارها» كتبته أيضًا بعد كلمات الرئيس المتزنة والعميقة عن الباحث الراحل، وتعاطف الرئيس مع عائلته ومع كل الشعب الإيطالى.
«القطاع القاسى»
عندما أصيب أبى- رحمه الله- بنزيف فى أوعية المخ، ونقله أخى الأكبر إلى مستشفى الطوارئ بالمنصورة بدأت المعاناة بحثًا عن سرير طوارئ، رغم أن العائلة بها خمسة أطباء. تواصلت وأنا فى طريق السفر مع صديقتى المحترمة غادة عبدالحافظ، مدير مكتب «المصرى اليوم» بالدقهلية ومع مسؤولين فى وزارة التعليم العالى، انتهاء بالوزير الإنسان د. خالد عبدالغفار.. وبعد معاناة استمرت لسبع ساعات حصلنا على سرير فى العناية المركزة. فى هذه الأثناء، وقبيل الفجر، وفى غرفة مدير المستشفى، دار حوار محزن حول حال «العناية المركزة» فى مصر. لماذا نحن بهذه القسوة نحو مرضانا.. لماذا لا نرفع عدد أسرة العناية المركزة وكفاءتها؟. ما الميزانية المطلوبة للوصول إلى النسبة العالمية بهذا الشأن؟.
هناك محافظات كاملة بدون «عناية مركزة». أعرف العشرات من الحالات التى ماتت على الطرق، وفى طرقات المستشفيات، بحثًا أو انتظاراً لـ«سرير عناية» خالٍ. الأرقام المطلوبة لزيادة عدد «الأسرة» ليست ضخمة. فقط هى الإرادة الغائبة. لدينا وزير صحة نشيط، لكنه لا يتعاطى مع الرأى العام وقضاياه. كنت أظن أن الإشادة المتواترة من الرئيس بما تم إنجازه فى مجال علاج «فيروس سى» ستكون حافزاً له، لكى ينتقل إلى ملف آخر. صحيح أن هذا الملف هو من ثمرة عمل اللجنة القومية للفيروسات وكوكبة من الوزراء السابقين، وصحيح أن برنامج «التأمين الصحى» الذى رأى النور مؤخراً هو خلاصة جهد علماء آخرين سبقوه إلى منصبه، لكن الرئيس وحكومته لديهم برنامج طموح لتحسين مستوى حياة المصريين، وبلا شك فإن التدخل لإنقاذ حياة إنسان على شفا الموت هو قمة الإنسانية. سمعنا من وزارة الصحة طويلاً عن خطط الإنقاذ والإسعاف الطائر ومستشفيات الطوارئ على الطرق.. وكلها بعيدة جداً عن الواقع.. ذكرونى برؤيتكم لإسعاف طائر واحد.
المستشفيات الجامعية هى الأخرى تعانى ضعف الميزانيات وهروب الكفاءات وفقر الصيانة. مطلوب إطار قانونى جديد لتعمل من خلاله. مطلوب إدارة واحدة لهذا «القطاع». إدارة تكون لديها الكفاءة «الاقتصادية» وتنطلق من دوافع إنسانية مخلصة. فقراء المصريين يعانون فى المستشفيات. وهناك قسوة فى التعامل معهم. لذلك لم يصدمنى كثيراً خبر سقوط الأسانسير فى مستشفى بنها الجامعى. الإدارة والرقابة والمسؤولية غائبة تمامًا عن هذا القطاع القاسى.. توقعوا سقوطًا جديداً.
مواقف «سعيد»
أكتب هذا الجزء من المقال بعد أن تبلور أمامى أكثر من موقف فى محيطى الخاص «عملى الصحفى»، وفى المحيط السياسى العام، بلا إجابات حاسمة وبلا تدخل «حكيم».
فى فترات سابقة، كانت هناك عشرات الأسماء على الساحة السياسية، إن أردت تعليقًا أو تفسيراً أو فكرة تنقذ بها عملك «الصحفى» أو فى «الفضائيات». انحسرت هذه الأسماء إما رفضًا أو غضبًا أو لعدم تعاطيهم مع الواقع الحالى. وبقيت أسماء بعينها محتفظة ببريقها وعنفوانها ومنطقها وإخلاصها. فى نظرى- ولا يغضب منى أحد- عدد هؤلاء الذين أقصدهم هنا والقادرين على إبهارى لا يزيدون على عشرة أسماء. على رأس هؤلاء الدكتور عبدالمنعم سعيد. اقتربت من سعيد فى فترة مبكرة، ورغم ذلك لم أتعامل معه بشكل مباشر إلا فى «المصرى اليوم»، هو رئيس مجلس الإدارة وأنا مدير للتحرير ثم رئيس للتحرير. لديه ثقة بالنفس وثراء معرفى لا نهائى. هو فوق الانتماءات السياسية كلها، رغم أنه ليبرالى حقيقى. لذلك عندما يعطى نصيحة أو يُطلب منه مذكرة لجهات رسمية ما، أو الإدلاء بدلوه فى منطقة خلافية، فإنه يفعل ذلك وفى عقله المصلحة العليا وليس قناعاته أو مصالحه الخاصة. هو وحده مركز معلومات متخصص.
أواظب على قراءة مقالاته بالعربية فى داخل مصر وخارجها، وقبل عامين- وحتى الآن- انتبهت إلى قدرته على التحليل الاقتصادى وتقديم أصعب السياسات الاقتصادية فى أسلوب سهل وبسيط.
اقتربت من «مركز الأهرام» حين كان مديره، وصادقت جيلى الشباب والوسط فى المركز ومازالوا حتى الآن. كنت أعمل منسقًا لإحدى الفضائيات الخليجية الرسمية فى القاهرة. وذلك فى فترة حساسة جداً من عمر هذا البلد العربى. كان لديهم وزن نسبى للضيوف، وكان لعبدالمنعم سعيد وأسامة الغزالى حرب تقدير مختلف، يعلو بكثير على أسماء سياسية رنانة كانت حينئذٍ ملء السمع والبصر.
علاقتى بعبدالمنعم سعيد متواصلة لن يعكّرها شوائب ولا سوء فهم، هو أستاذ ومفكر.. وجميعنا يعلم ذلك. أدعوه أن يكتب جزءًا من ذكرياته وحكاياته مع السياسة والصحافة.. والزعماء
نقلا عن المصري اليوم