بقلم - سوسن الشاعر
شاهدت مسلسلاً وثائقياً من خمس حلقات عن فيلسوف هندي ذاع صيته في نهاية الستينات، وأصبح له مريدوه من كل حدب وصوب من داخل وخارج الهند، لُقب «باوشو» أو «باغوان» أي «الإله»، اسم المسلسل «wild wild country».
حين ضاقت بـ«باغوان»، الهند، على كثرة دياناتها ومعتقدات أهلها، طالب أتباعه بالبحث عن أكثر الدول سماحةً وترحيباً بتعدد الأديان، فقيل له إنها أميركا يحمي دستورها حريات المعتقدات والحرية الفردية.
فارتحل هو وأتباعه لها، واشترى مزارع شاسعة بأموال توفرت له من تبرعات مريديه الذين أصبحوا بمئات الآلاف. ما اللافت للنظر في قصة هذا الرجل؟
أولاً، أنها تكشف زيف الادعاء بأن حريات المعتقد في العالم الغربي حرية مطلقة - فبغض النظر عن فساد معتقدات هذا الرجل أو صحتها - إلا أن السلطات الأميركية في ولاية أوريغون كانت تبحث عن أي ثغرة قانونية، أو تنتظر أي خطأ يرتكبه هو وأتباعه كي تطرده من أرضها، ونجحت في ذلك. الذي طرد هذه الجماعة هما العرف والتقليد لا القانون، انتصرت الأعراف المسيحية المحافظة، إن صح التعبير، على الدستور الأميركي، مما يثبت أن للحريات سقفاً يحدده العرف الجمعي لا يحدده القانون.
كانت دعوة «باغوان» بها من الإباحية الجنسية ما لم يتحمله سكان الولايات المجاورة، فقد كانوا من الأميركيين المحافظين، وأغلبهم متقاعدون في مدن نائية؛ بعضها لا يزيد عدد سكانها عن الخمسين نفراً. اشترى أتباع «الباغوان» مزارع شاسعة بجوارهم، وأقاموا عليها مجتمعهم الخاص بأعرافه الغريبة. وثبت أنه رغم حرص تلك الجماعة على عدم خرق القانون الأميركي، إلا أن الأهالي لم يتقبلوهم.
ثانياً، لم تتحمل السلطات الفيدرالية الأميركية تلك الدرجة من «الاستقلالية» التي تمتع بها هؤلاء الأتباع بالاكتفاء الذاتي لجماعاتهم بالأمن والغذاء والحكم الذاتي، رغم عدم مخالفتهم للقوانين، خصوصاً أن من بينهم محامين يدرسون كل خطوة يقومون بها، إنما سرعان ما تم طردهم وهدم مجتمعهم وتفكيكه بالكامل، رغم مرور أربع سنوات بنت فيه هذه المجموعة مدينة بكامل مرافقها بيدها، وزرعت غذاءها بيدها، ولكن ضاع صوتهم وهم يناشدون جمعيات حقوق الإنسان، ويستعينون بالإعلام للاستنجاد بالرأي العام، ويستشهدون بالدستور الأميركي، وما جاء به من ضمانات للحقوق الفردية، فكشف ذلك أيضاً عن خرافة علو تلك الحقوق على الحق الجماعي.
فحين قرر أهالي المقاطعات المجاورة عدم تقبلهم لهذه الجماعة، وشعورهم بالخوف وعدم الأمان منهم لغرابة أفكارهم، وحين عجزت آلية التصويت الديمقراطية عن طردهم بعد أن جمع أتباع «الباغوان» عدداً كبيراً من المشردين من جميع الولايات، لجأت السلطات الفيدرالية للثغرات القانونية في ممارساتهم، فكان هذا التفافاً كبيراً واضحاً على الدستور، اضطرت السلطات له اضطراراً كي تتمكن من مضايقة هذه المجموعة ودفعها للمغادرة.
لست بمعرض مناقشة فحوى تلك الدعوة الإباحية، وغرابتها، التي أباحت حتى الجنس الجمعي، أو مناقشة جوانب أخرى تطرق لها المسلسل الوثائقي عن الخلافات التي دبت بين قيادات تلك الدعوة، إنما هي مناقشة لمقولة وجود ما يسمى حريات المعتقد المطلقة في الغرب، أو علو الحقوق الفردية على الحق الجمعي في الدول الليبرالية. تلك القيم والمبادئ التي يتغنى بها الغرب، ويعاير دول العالم بنقصها، فتثبت حكاية «الرانجيشيين»، وقد كان هذا هو اسم دعوتهم أو ديانتهم أو معتقدهم، أن هناك سقفاً واحداً للمقبول والمسموح به يحدده العرف أكثر ما تحدده القوانين، حتى في أكثر المجتمعات تحرراً وعبادة للحرية. فمهما علا السقف فإن المجتمعات في النهاية هي من يحدد نهايته لا القانون ولا أي وثيقة عالمية لحقوق الإنسان.
على صعيد آخر، لفت نظري في قصة هذا «الباغوان» القدرة التي يملكها البعض من البشر على غسل الأدمغة، والسيطرة على العقل الجمعي. لفت نظري ذلك الانجذاب في المجتمع الغربي من أستراليا إلى أوروبا إلى أميركا لأي دعوة شرقية تشبع هذا العطش الفطري والغريزي للروحانيات، فترى متعلمين يحملون أرقى الشهادات الأكاديمية، منهم المحامي والطبيب والمهندس والمخطط الاستراتيجي، ومن دول غربية وشرقية جميعهم تعلقوا بهذا المتصوف بلحيته البيضاء الطويلة وعمامته وجسمه الهزيل، تعلق الطفل بأمه! يبكون حين يرونه، وينتظرونه على الطريق، ويتمسحون بثيابه، حتى علَّقت إحدى الصحافيات الأميركيات في الحلقة الأخيرة من المسلسل على هذا التعلق الغريب، وهذا الاستلاب، بأنها رأته مرتين في حياتها؛ مرة مع «باغوان»، ومرة مع الخميني. رأت جموعاً مسلوبة العقل والإرادة تتبع بشراً، وتؤمن به إيماناً مطلقاً، وتضعه في مرتبة غير بشرية!!
ختاماً بعد أن طرد «الرانجيشيون»، وتفكك مجتمعهم، وعادوا مرة أخرى للهند، اشترت جمعية مسيحية مزارعهم الشاسعة، وحولتها إلى متنزه للشباب المسيحي المحافظ!!
نقلا عن الشرق الاوسط اللندنية
المقال يعبّر عن رأي الكاتب وليس بالضرورة رأي الموقع