بقلم: سوسن الشاعر
قدر الدول الكبرى أن تحظى بمكانتها الاستراتيجية بقدر مساهمتها في تحقيق الأمن والرخاء لها ولمحيطها كذلك، وعدم الانغلاق والاهتمام بالذات فحسب، وهذا ما تقوم به المملكة العربية السعودية من جهد على المستوى الأمني والاقتصادي في محيط العالم العربي، مما يمنحها تلك المكانة بلا جدال.
فالسعودية لم تكتفِ بالمكانة التي وفرتها لها المقومات الطبيعية في أرضها، من موقع جغرافي وإمكانات مادية وحجم ديموغرافي ومركز ديني، كي تحظى بهذه المكانة، إنما تسعى من خلال ما تملك من تلك المقومات إلى تعزيز «الأمن العربي» وتقويته لا بالقوة العسكرية على ما جرت العادة؛ بل بالقوى الناعمة؛ حيث تكسب بها ما لا تكسبه بالعنف والفوضى والدمار.
فلو عاد الأمر لدراسات الجدوى الاقتصادية الصرفة وحدها، وتقييم المخاطر الاستثمارية، لما جازفت المملكة العربية السعودية باستثمار ريال واحد في العراق، فكم الـ«لا» يفوق بكثير كم الـ«نعم». حين تعقد المقارنة بين الاثنين، بين «نعم» للاستثمار في بلد يبدو حافلاً بالمخاطر الأمنية، والنفوذ الإيراني فيه كبير جداً كالعراق، و«لا» التي تحث على عدم المخاطرة، فالخسارة واردة وبشدة.
إنما التفكير الاستراتيجي السعودي ذو النظرة البعيدة لمقتضيات الأمن القومي العربي بشكل عام وأمنها القومي بشكل خاص، هو الذي نحَّى جانباً الدراسة الاقتصادية الصرفة، ووضع نصب عينيه دراسة أخرى تسعى لتحقيق معادلة الاستثمار السياسي إلى جانب الاستثمار الاقتصادي، وجعل الاستثمار التجاري إحدى أدوات القوى الناعمة التي بها يمكن أن يعود العراق لحضنه الطبيعي الجغرافي والتاريخي، ويمكِّن العراقيين من مواجهة المد الإيراني ونفوذه، وبناء عليه تستطيع المملكة العربية السعودية أن تجعل من العمق العراقي امتداداً لأمنها. وعلى هذا الأساس تغيرت نسب الربح والخسارة من بعد ذلك، وبناء عليه اتجهت السعودية إلى العراق، مما ينم عن بعد نظر ورؤية استراتيجية أمنية، إلى جانب المنافع الاقتصادية على كلا الجانبين.
ففي الوقت الذي يستعد فيه العراق لافتتاح المنفذ الثاني بينه وبين المملكة العربية السعودية، بعد انقطاع دام ثلاثة عقود، وبعد منفذ عرعر الذي يقع في الأنبار جنوب شرقي البلاد، يستعد منفذ الجميمة في محافظة المثنى للافتتاح هو أيضاً في الأيام المقبلة، يعلو صوت كصوت قيس الخزعلي، المطلوب على قائمة الإرهاب دولياً، برفض هذا التقارب والتحريض ضده؛ بل وتهديده. ودعا الخزعلي «كل النخب من الأكاديميين في مختلف المجالات، وطلبتنا الأعزاء والفعاليات الاجتماعية، وفي مقدمتها شيوخ العشائر ووجهاؤها المحترمون، وكذلك القوى والشخصيات السياسية الوطنية، إلى رفض هذا المشروع الخبيث وعدم السماح به».. وذلك على خلفية وصول وفد سعودي الأسبوع الماضي برئاسة وزير التجارة وزير الإعلام المكلف الدكتور ماجد القصبي إلى بغداد، لإجراء مباحثات تعاون في مجالات متعددة.
ويضم الوفد السعودي كلاً من وزير الصناعة والثروة المعدنية بندر الخريف، ومحافظ الهيئة السعودية للمواصفات والمقاييس والجودة سعد القصبي، والأمين العام لهيئة تنمية الصادرات السعودية الرئيس التنفيذي للصندوق السعودي للتنمية الدكتور عائض العتيبي، إضافة إلى ممثلين عن وزارات ومؤسسات وقطاعات حكومية، فضلاً عن وفد تجاري واقتصادي يضم عدداً من الشركات التجارية والاقتصادية والاستثمارية.
وسجلت السعودية مبادرة لتسجيل 100 شركة في العراق، بينما يمتلك الأخير موارد مائية وأراضي خصبة وخبرات تمكنه من تلبية احتياجات المنطقة العربية والعالم.
وقال رئيس مجلس الأعمال السعودي العراقي بمجلس الغرف السعودية محمد الخريف، في تصريح أوردته وسائل إعلام سعودية، إن أصحاب الأعمال يحرصون على تعزيز العلاقات التجارية والاستثمار في الميزات النسبية للبلدين، وممكنات الاقتصاد السعودي، كالصناعات الهيدروكربونية والتعدين والطاقة والصناعات الصيدلانية والغذائية، وصناعات مواد البناء والتشييد، والرعاية الصحية.
كما نرى السعودية مقبلة على العراق لتعويض سنوات من القطيعة تركت فراغاً عربياً قفزت إليه إيران، ويحتاج الأمر لنفس طويل وجهود بناء تعادل جهود الهدم التي ظلت تعمل منفردة بلا قيود على مدى 17 عاماً، اختُطف فيها العراق من حضنه الطبيعي، ولن يكون الأمر سهلاً أبداً، فأمثال قيس الخزعلي منتشرون ولهم نفوذ، ولن تتوقف محاولاتهم على مجرد التهديد، فالعراق شبه محتل، إذ تعده إيران ولاية من ولاياتها، وبذلت من أجل إخضاعه الكثير، فهو معبرها الآن لتتمدد شرقاً، ومنبع استنزاف لموارده، وسيبذل الإيرانيون الكثير لمنع نجاح المساعي السعودية.
السعودية تستثمر في عروبة العراق، وهذا إعمار لطريق هُجر على مدى 17 عاماً، يحتاج صبراً وحنكة، وأن تُوفر له الحماية من الجانبين.