تكملة عنوان المقال، كما هو معروف، فأمر بما يستطاع. وإذا لم تستوعب الحكومات هذه الحكمة الشائعة، فالنتيجة معروفة مسبقا. سوف تفرض الحكومات من القوانين والقرارات ما تعتقد أنه يحقق الصالح العام، وسوف يضرب بعض المواطنين عرض الحائط بهذه القوانين لأنها لا تتوافق مع تلبية احتياجاتهم. الخاسر هو المجتمع بأسره.
الأمثلة على عدم استيعاب الحكومات لهذه الحكمة الشهير كثيرة، أنتقى منها ثلاثة: تجريم البناء على الأرض الزراعية، قرارات إخلاء الطرق من الباعة الجائلين، وقانون الإيجارات القديم. القاسم المشترك فى الحالات الثلاث هو توفر حسن النية دون أن يكون ذلك كافيا لدرء عواقب وخيمة. الإصلاح الحقيقى يتطلب اقتلاع المشكلات من جذورها، وليس ما يظهر منها على السطح.
دعونا نبدأ بقانون تجريم البناء على الأراضى الزراعية الصادر عام 1966. الهدف من هذا القانون ومراجعاته كان حماية الرقعة الزراعية من التآكل، وهذا هدف نبيل بكل المقاييس. مصر دولة زراعية فى الأساس، يعيش سكانها على 5% من أراضيها الشاسعة، وتتزايد احتياجاتهم من الغذاء مع مرور الوقت.
مشكلة القانون وتعديلاته اللاحقة، بتغليظ العقوبات أو التصالح من عدمه أنه لم يسبقه تخطيط سليم لاستيعاب الأعداد المتزايدة من السكان فى أماكن قريبة من عملهم، ومدارس أولادهم، والخدمات الصحية، وغير ذلك من مصادر تلبية احتياجاتهم اليومية. غياب التخطيط فى ظل الزيادة السكانية أدى إلى ظاهرتين سلبيتين:
أولا- الاعتداء على الأراضى الزراعية لقربها من مصادر الرزق والخدمات العامة والشبكات الاجتماعية.
ثانيا- انتشار العشوائيات على أطراف المدن الكبرى بسبب الهجرة من الريف إلى الحضر.
سياسة الضرب بيد من حديد على كل من تسول له نفسه الاعتداء على الأراضى الزراعية قد تنجح أحيانا، لكنها ليست حلا حقيقيا.
ماذا عن قرارات إخلاء الطرق من الباعة الجائلين؟
هذه القرارات أيضا لها ما يبررها مجتمعيا، خاصة عندما تحتل قوافل الباعة الجائلين الأرصفة المخصصة للمشاة، وتمتد للشوارع المخصصة لمرور السيارات، ناهيك مما تجلبه من ضوضاء وقمامة.
الإشكالية هنا أن هذه القرارات تتعارض مع حاجة المواطنين للعمل فى أماكن يتجول فيها المشترون المحتملون، فى زمن تعز فيه فرص العمل فى القطاع الخاص الرسمى والحكومة. جذور هذه المشكلة مرتبط بتفشى ظاهرة القطاع غير الرسمى بسبب التعقيدات غير المبررة فى مناخ الاستثمار فى القطاع الرسمى، ومحدودية فرص استفادة المنشآت الصغيرة من مزايا الانضمام لهذا القطاع.
التعامل مع مشكلة الباعة الجائلين بقرارات إجلاء يؤدى إلى انفضاض المولد مؤقتا، لكن سرعان ما تعود الأمور لسابق عهدها.
الحل الحقيقى يكمن فى تبنى تشريع يشجع من يعملون فى القطاع غير الرسمى على الانضمام طواعية للقطاع الرسمى، كما أشرت تفصيلا فى مقال آخر تم نشره فى المصرى اليوم تحت عنوان «صفقة نادرة».
وأخيرا، ماذا عن قانون الإيجارات القديم؟
الهدف من هذا القانون عند صدوره فى الحقبة الاشتراكية كان حماية المستأجرين من جشع مالكى العقارات. هذا هدف اجتماعى نبيل آخر، إلا أنه أدى لسنوات طويلة إلى تقاعس المستثمرين عن بناء وحدات جديدة، فضلا عن إهمال صيانة المبانى القائمة. وفى وقت من الأوقات كانت الوسيلة الوحيدة للحصول على مسكن أن يقوم المستأجر بتعويض المالك، أو حائز الوحدة، بدفع خلو رجل.
خفت حدة هذه المشكلة عندما صدر قانون جديد للإيجارات أكثر مرونة فى علاقة المالك بالمستأجر، لكن بقيت المشاكل المصاحبة لقانون الإيجارات القديمة على حالها. فضلا عن ذلك، بدأت مشاكل أخرى فى الظهور، منها انتشار المنتجعات الساحلية نادرة الاستخدام، وظاهرة الشقق المغلقة، والارتفاع المضطرد فى أسعار العقارات.
هذه المشاكل تستدعى دراسة متأنية للوصول إلى حلول تضمن حق جميع المواطنين فى سكن كريم، وعائد معقول للمستثمرين، وتخصيص أفضل للموارد النادرة بين بدائل الاستثمار المختلفة.
خلاصة القول: القاسم المشترك بين الأمثلة الثلاثة السابقة هو أن القوانين التى لا تتوافق مع مصالح الناس يتم التحايل عليها بشكل قانونى أو غير قانونى. استخدام القسر ليس حلا حقيقيا.
إذا أرادت الحكومة حقا أن يلتزم المواطنون بالقوانين والقرارات التى تسنها، فليس أمامها إلا أن تتأكد أن هذه القوانين تتفق مع مصلحتهم ومصلحة الوطن.
وما أصدق القول: إذا أردت أن تطاع، فأمر بما يستطاع!
نقلا عن المصري اليوم
المقال يعبّر عن رأي الكاتب وليس بالضرورة رأي الموقع