بقلم : أحمد جلال
تمحورت رسالة الدكتوراه لأحد زملائى فى جامعة بوسطن، منذ أكثر من 35 عاما، حول أثر شبكات العلاقات الاجتماعية على أداء الاقتصاد الهندى. فكرة الدراسة كانت أن المواطن الهندى مثل غيره من مواطنى الدول الأخرى، يفاضل بين استثمار جهده ووقته وماله فى القيام بعمل جاد ومنتج، أو فى بناء علاقات اجتماعية تمكنه من الحصول على امتيازات خاصة على حساب الآخرين. أطروحته كانت كما يلى: إذا كانت منظومة العلاقات الاجتماعية محابية للتكسب بلا مجهود، فقل على تقدم الأمة السلام، والعكس صحيح.
تغيرت ظروف الهند منذ ذلك الحين، وتحسن أداؤها الاقتصادى. فى حالتنا: إلى أى مدى نعانى من تفشى ظاهرة التكسب بلا مجهود بناء على ما تواضعنا على تسميته «الواسطة» أو المحسوبية؟ وإذا كانت هذه الظاهرة منتشرة بدرجة غير مقبولة، فما هى أسبابها؟ وأخيرا، كيف يمكن التغلب عليها، أو على الأقل الحد منها؟
لا أظن أننا فى حاجة كبيرة للتدليل على توغل «الواسطة» فى كثير من مناحى حياتنا الشخصية والمهنية. الأمثلة على ذلك كثيرة، وعادة ما تظهر عند محاولة بدء نشاط جديد، أو الحصول على وظيفة، أو امتلاك شقة أو قطعة أرض، أو إدخال الأبناء فى مدارس بعينها، أو الحصول على خدمات حكومية، أو حتى الحصول على عضوية النوادى الاجتماعية. وقد اعتدنا هذه الظاهرة لدرجة أن الخاطر الذى يأتينا للوهلة الأولى عندما نكون فى حاجة لإنجاز مهمة ما إن نبحث عن أحد معارفنا لتسهيل المهمة.
والحقيقة أننى لم أندهش كثيرا عندما قرأت فى صحيفة الشروق بتاريخ 31 يناير 2018 تصريحا للسيدة كريستين لاجارد، مديرة صندوق النقد الدولى، تقول فيه إن 60% من مواطنى الشرق الأوسط يؤمنون بأن «الواسطة» هى العامل الرئيسى للحصول على وظيفة.
ما هى جذور المشكلة؟ سوف يندفع البعض إلى إلصاق التهمة بموروثنا الثقافى أو قلة الضمير. وظنى أن هذه الظاهرة من صنع حكوماتنا بدرجة كبيرة. فى أواخر السبعينيات من القرن الماضى، جاءت آن كروجر، وهى اقتصادية أمريكية شهيرة، بمصطلح سمته «سلوك السعى للربح الريعى»، وأسندته للتشوه فى السياسات التى تتبناها الحكومات.
إذا قررت الحكومة، على سبيل المثال، تقييد الواردات وإعطاء تصاريح لبعض المستوردين، فهذا بمثابة إعطاء صكوك لاحتكار السوق والتربح بمجهود قليل. نفس النتيجة تحدث عندما تقرر الحكومة حماية بعض الصناعات مقارنة بغيرها، ومنح الأراضى للمقربين منها، وفرض رسوم إغراق غير مبررة، وتفصيل المناقصات العامة لصالح البعض... إلخ.
وبالمثل، يعانى المواطن فى حصوله على الخدمات العامة، لأن القواعد المعمول بها تفتقد الشفافية، وتعطى الموظف العام فرصة للتقدير الجزافى. تشوه السياسات وعدم شفافية قواعد الحصول على الخدمات العامة يدفعان المواطن للاستثمار إلى تنمية شبكات اجتماعية كبديل عن ريادة الأعمال والامتثال للقواعد. مجتمعيا، هذه التشوهات تؤدى إلى فقدان الموارد، وتشجع السلوك الانتهازى، فضلا عن أنها تصيب مبدأى الكفاءة وتكافؤ الفرص فى مقتل.
هل من سبيل للتغلب على هذه الظاهرة؟ من الأمثلة السابقة يبدو أن جذور المشكلة نابع من مصدرين أساسيين: أولا تشوه السياسات، وثانيا غياب قواعد واضحة وعادلة للحصول على الخدمات العامة التى هى حق أصيل لدافعى الضرائب. وإذا كان ذلك كذلك، فالحل يكمن فى التخلى عن السياسات التفضيلية، إلا فى أضيق الحدود وبشروط تنموية موضوعية، وذلك بإعادة النظر فى منظومة الجمارك، وتخصيص الأراضى، والتمويل، والإعفاءات الضريبية، وغير ذلك من استثناءات. فى نفس الوقت، من الضرورى وضع وتفعيل قواعد واضحة للحصول على الخدمات العامة، فضلا عن ميكنتها لتقليل التقديرات الجزافية. هذه الإصلاحات من شأنها أن تحد من الآثار السلبية لـ«الواسطة»، وتوفر على المواطن والمجتمع الكثير من الجهد والوقت والموارد، فضلا عن تشجيع روح الإبداع فى مجال ريادة الأعمال.
الخلاصة إذن، هى أن مصائر الأمم تتوقف على قدرتها على الحد من فرص التكسب بلا مجهود، ومن الممكن أن نقطع شوطا معقولا فى هذا الاتجاه بتصحيح تشوهات السياسات المحابية للبعض على حساب البعض الآخر، ووضع وتطبيق قواعد عمل واضحة فى تقديم الخدمات العامة. بالطبع لن يقف أصحاب المصالح الخاصة ساكنين فى وجه مثل هذه الإصلاحات، لكن المصلحة العامة يجب أن تعلو فوق الجميع.
نقلاً عن المصري اليوم