بقلم - أحمد جلال
كان لأحد أصدقائى، وهو متخصص فى اقتصاديات البنوك، وجهة نظر فى شرح ظاهرة «رسملة» البنوك العامة بشكل متكرر كل 10 سنوات تقريبا. «رسملة» البنوك هنا تعنى ضخ أموال حكومية لتصحيح خلل فى ملاءة البنوك المالية عندما يتآكل رأسمالها تحت وطأة الخسائر المتراكمة من جراء الإقراض السيئ. منطق جيرالد كابريو، أو جيرى كما كنا نسميه، أن الحكومات تستخدم البنوك العامة لتحقيق أغراض سياسية عن طريق إصدار توجيهات، مكتوبة أو غير مكتوبة، بإقراض أطراف بعينها.
بالطبع تنعكس هذه الممارسات على ربحية البنوك آجلا أو عاجلا، مما يحتم ضخ أموال جديدة لمساعدتها على استعادة توازنها المالى، أو ملء الإناء للاغتراف منه من جديد. يتحمل عبء هذا الفشل دافعى الضرائب بشكل مباشر، والاقتصاد بأكمله بشكل غير مباشر، فى شكل ضياع فرص استثمار مجزية، ومعها ما كان يمكن تحقيقه من فرص عمل وأرباح وإيرادات ضريبية للخزانة العامة.
القضية التى تثيرها هذه الظاهرة هى قضية «تسييس» القرارات الاقتصادية، أى اتخاذ قرارات اقتصادية بدوافع سياسية، سواء كانت نبيلة أو غير نبيلة. فى هذا الإطار، دعونا نتساءل: هل «تسييس» السياسات الاقتصادية ظاهرة تستحق التوقف عندها؟ وهل لنا فى مصر نصيب منها؟ وما هو السبيل لفض الاشتباك بين السياسة والاقتصاد، إن كان ذلك ممكنا؟
فيما يتعلق بانتشار ظاهرة «تسييس» السياسات الاقتصادية، هناك من الدلائل ما يؤكد حضورها فى الدول النامية والمتقدمة على حد سواء. على سبيل المثال، كيف لنا أن نفسر الحرب التجارية التى يشنها «ترامب» الآن على الصين دون ربطها بشعار «أمريكا أولا» الذى تبناه فى حملته الانتخابية لكرسى الرئاسة؟ وكيف لنا أن نفسر خروج إنجلترا من الاتحاد الأوروبى دون أن يكون ذلك مرتبطا باستجابة الساسة لتزايد حساسية الإنجليز تجاه الهجرة؟ وأخيرا، لماذا يلجأ الساسة فى الأرجنتين، وغيرها من الدول، إلى اتباع سياسات توسعية قبيل الانتخابات الرئاسية أو البرلمانية، حتى فى ظل ارتفاع معدلات التضخم، سوى إرضاء الناخبين؟ تتعدد القرارات الاقتصادية وتبقى الدوافع السياسية فى القلب منها.
بعيدا عن هذه الأمثلة المتناثرة وبالتركيز على مصر، يؤكد تاريخنا منذ عام 1952 أننا لسنا استثناء لهذه القاعدة. دون الحكم على الأشخاص أو التجارب ونتائجها، من الصعب إنكار أن عبد الناصر كان متحيزا للطبقتين الفقيرة والمتوسطة، ومن هنا كانت قرارات مجانية التعليم والخدمات الصحية، وقرارات التأميم، وضمان وظائف لخريجى التعليم فى الحكومة. فى فترتى السادات ومبارك، يبدو أنهما كانا متحيزين للطبقة الرأسمالية، الجيد منها والخبيث، ولم يكن لديهما الاستعداد لإغضاب الطبقتين الفقيرة والمتوسطة. ومن هنا كان الانفتاح الاقتصادى الذى صاحبته سياسات تفضيلية لمن ساندوا النظام، وإحجام عن تحريك للأسعار خوفا من رد فعل الشارع بعد مظاهرات 1977. بالنسبة للبنوك العامة، لم يتردد أى من الرؤساء الثلاثة فى استخدامها لإقراض شركات وهيئات عامة خاسرة، أو إقراض نخبة مختارة من القطاع الخاص منذ منتصف السبعينيات. النتيجة غير المدهشة، كما توقع كابريو، أن البنوك العامة حظيت بدعم مالى لرأسمالها دوريا، أحدها على ما أذكر فى أوائل التسعينيات، وثانيها فى منتصف العقد الأول من القرن الحالى.
هل يعنى هذا أن السياسة يمكن، أو يجب، فصلها عن القرارات الاقتصادية؟ لا أظن ذلك. نقطة البداية هى أن الرشادة الاقتصادية، بمعنى تخصيص الموارد بشكل يحقق أكبر منفعة للمجتمع، والرشادة السياسية، بمعنى تخصيص الموارد لصالح من يحكمون أو من يسعون إلى الحكم، لا يتوافقان فى كثير من الأحيان. لتقليل هذه الفجوة تبنت الدول المتقدمة والدول الناهضة منظومة سياسية تجبر الساسة على الاستجابة لمطالب الأغلبية والمساءلة عن الحيد عنها، فى إطار يحترم سيادة القانون، ويضمن استقلالية ومهنية الإعلام. فى المقابل، فشلت الدول غير المتقدمة فى تبنى مثل هذه المنظومة، بتنويعاتها المختلفة، مما تركها عُرضة لقرارات اقتصادية غير رشيدة.
عودة لظاهرة «رسملة» البنوك العامة، حتى وإن جاءت تحت عناوين براقة مثل الإصلاح المالى، فالحقيقة أن جذور المشكلة أعمق من مجرد سوء إدارة محافظها المالية. السبب الحقيقى للابتعاد عن معيار الرشادة الاقتصادية، فى هذه الحالة وفى غيرها، يكمن فى غياب الديمقراطية الناضجة، ومعها غياب المساءلة عما يتم اتخاذه من قرارات. مصر ليست استثناء لهذه القاعدة.
نقلا عن المصري اليوم
المقال يعبّر عن رأي الكاتب وليس بالضرورة رأي الموقع