توقيت القاهرة المحلي 10:22:08 آخر تحديث
  مصر اليوم -

«تسييس» السياسات الاقتصادية

  مصر اليوم -

«تسييس» السياسات الاقتصادية

بقلم - أحمد جلال

كان لأحد أصدقائى، وهو متخصص فى اقتصاديات البنوك، وجهة نظر فى شرح ظاهرة «رسملة» البنوك العامة بشكل متكرر كل 10 سنوات تقريبا. «رسملة» البنوك هنا تعنى ضخ أموال حكومية لتصحيح خلل فى ملاءة البنوك المالية عندما يتآكل رأسمالها تحت وطأة الخسائر المتراكمة من جراء الإقراض السيئ. منطق جيرالد كابريو، أو جيرى كما كنا نسميه، أن الحكومات تستخدم البنوك العامة لتحقيق أغراض سياسية عن طريق إصدار توجيهات، مكتوبة أو غير مكتوبة، بإقراض أطراف بعينها.

بالطبع تنعكس هذه الممارسات على ربحية البنوك آجلا أو عاجلا، مما يحتم ضخ أموال جديدة لمساعدتها على استعادة توازنها المالى، أو ملء الإناء للاغتراف منه من جديد. يتحمل عبء هذا الفشل دافعى الضرائب بشكل مباشر، والاقتصاد بأكمله بشكل غير مباشر، فى شكل ضياع فرص استثمار مجزية، ومعها ما كان يمكن تحقيقه من فرص عمل وأرباح وإيرادات ضريبية للخزانة العامة.

القضية التى تثيرها هذه الظاهرة هى قضية «تسييس» القرارات الاقتصادية، أى اتخاذ قرارات اقتصادية بدوافع سياسية، سواء كانت نبيلة أو غير نبيلة. فى هذا الإطار، دعونا نتساءل: هل «تسييس» السياسات الاقتصادية ظاهرة تستحق التوقف عندها؟ وهل لنا فى مصر نصيب منها؟ وما هو السبيل لفض الاشتباك بين السياسة والاقتصاد، إن كان ذلك ممكنا؟

فيما يتعلق بانتشار ظاهرة «تسييس» السياسات الاقتصادية، هناك من الدلائل ما يؤكد حضورها فى الدول النامية والمتقدمة على حد سواء. على سبيل المثال، كيف لنا أن نفسر الحرب التجارية التى يشنها «ترامب» الآن على الصين دون ربطها بشعار «أمريكا أولا» الذى تبناه فى حملته الانتخابية لكرسى الرئاسة؟ وكيف لنا أن نفسر خروج إنجلترا من الاتحاد الأوروبى دون أن يكون ذلك مرتبطا باستجابة الساسة لتزايد حساسية الإنجليز تجاه الهجرة؟ وأخيرا، لماذا يلجأ الساسة فى الأرجنتين، وغيرها من الدول، إلى اتباع سياسات توسعية قبيل الانتخابات الرئاسية أو البرلمانية، حتى فى ظل ارتفاع معدلات التضخم، سوى إرضاء الناخبين؟ تتعدد القرارات الاقتصادية وتبقى الدوافع السياسية فى القلب منها.

بعيدا عن هذه الأمثلة المتناثرة وبالتركيز على مصر، يؤكد تاريخنا منذ عام 1952 أننا لسنا استثناء لهذه القاعدة. دون الحكم على الأشخاص أو التجارب ونتائجها، من الصعب إنكار أن عبد الناصر كان متحيزا للطبقتين الفقيرة والمتوسطة، ومن هنا كانت قرارات مجانية التعليم والخدمات الصحية، وقرارات التأميم، وضمان وظائف لخريجى التعليم فى الحكومة. فى فترتى السادات ومبارك، يبدو أنهما كانا متحيزين للطبقة الرأسمالية، الجيد منها والخبيث، ولم يكن لديهما الاستعداد لإغضاب الطبقتين الفقيرة والمتوسطة. ومن هنا كان الانفتاح الاقتصادى الذى صاحبته سياسات تفضيلية لمن ساندوا النظام، وإحجام عن تحريك للأسعار خوفا من رد فعل الشارع بعد مظاهرات 1977. بالنسبة للبنوك العامة، لم يتردد أى من الرؤساء الثلاثة فى استخدامها لإقراض شركات وهيئات عامة خاسرة، أو إقراض نخبة مختارة من القطاع الخاص منذ منتصف السبعينيات. النتيجة غير المدهشة، كما توقع كابريو، أن البنوك العامة حظيت بدعم مالى لرأسمالها دوريا، أحدها على ما أذكر فى أوائل التسعينيات، وثانيها فى منتصف العقد الأول من القرن الحالى.

هل يعنى هذا أن السياسة يمكن، أو يجب، فصلها عن القرارات الاقتصادية؟ لا أظن ذلك. نقطة البداية هى أن الرشادة الاقتصادية، بمعنى تخصيص الموارد بشكل يحقق أكبر منفعة للمجتمع، والرشادة السياسية، بمعنى تخصيص الموارد لصالح من يحكمون أو من يسعون إلى الحكم، لا يتوافقان فى كثير من الأحيان. لتقليل هذه الفجوة تبنت الدول المتقدمة والدول الناهضة منظومة سياسية تجبر الساسة على الاستجابة لمطالب الأغلبية والمساءلة عن الحيد عنها، فى إطار يحترم سيادة القانون، ويضمن استقلالية ومهنية الإعلام. فى المقابل، فشلت الدول غير المتقدمة فى تبنى مثل هذه المنظومة، بتنويعاتها المختلفة، مما تركها عُرضة لقرارات اقتصادية غير رشيدة.

عودة لظاهرة «رسملة» البنوك العامة، حتى وإن جاءت تحت عناوين براقة مثل الإصلاح المالى، فالحقيقة أن جذور المشكلة أعمق من مجرد سوء إدارة محافظها المالية. السبب الحقيقى للابتعاد عن معيار الرشادة الاقتصادية، فى هذه الحالة وفى غيرها، يكمن فى غياب الديمقراطية الناضجة، ومعها غياب المساءلة عما يتم اتخاذه من قرارات. مصر ليست استثناء لهذه القاعدة.

نقلا عن المصري اليوم 

المقال يعبّر عن رأي الكاتب وليس بالضرورة رأي الموقع

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

«تسييس» السياسات الاقتصادية «تسييس» السياسات الاقتصادية



GMT 20:22 2023 الخميس ,19 تشرين الأول / أكتوبر

مليونية ضد التهجير

GMT 03:11 2023 الأربعاء ,21 حزيران / يونيو

الخالدون أم العظماء

GMT 04:43 2023 الإثنين ,19 حزيران / يونيو

كل سنة وأنت طيب يا بابا

GMT 04:15 2023 الأحد ,18 حزيران / يونيو

الزعامة والعقاب... في وستمنستر

GMT 03:32 2023 الأحد ,18 حزيران / يونيو

حدوتة مصرية فى «جدة»

اللون الأسود سيطر على إطلالات ياسمين صبري في عام 2024

القاهرة ـ مصر اليوم

GMT 08:50 2025 الأربعاء ,08 كانون الثاني / يناير

إسرائيل تتهم الجيش اللبناني بالتعاون مع حزب الله
  مصر اليوم - إسرائيل تتهم الجيش اللبناني بالتعاون مع حزب الله

GMT 08:31 2025 الأربعاء ,08 كانون الثاني / يناير

أدوية حرقة المعدة تزيد من خطر الإصابة بالخرف
  مصر اليوم - أدوية حرقة المعدة تزيد من خطر الإصابة بالخرف

GMT 09:32 2025 الأربعاء ,08 كانون الثاني / يناير

بسمة بوسيل تشوّق جمهورها لأغنيتها الجديدة "لأ ثواني"
  مصر اليوم - بسمة بوسيل تشوّق جمهورها لأغنيتها الجديدة لأ ثواني

GMT 09:07 2024 الثلاثاء ,24 كانون الأول / ديسمبر

الملكة رانيا تربعت على عرش الموضة بذوقها الراقي في 2024

GMT 08:46 2024 الجمعة ,20 كانون الأول / ديسمبر

مبابي يكشف سبب منعه من الاستمرار مع سان جيرمان

GMT 01:15 2017 الخميس ,09 تشرين الثاني / نوفمبر

أفضل ألعاب يمكن تحميلها الآن على هاتف الآيفون مجانا

GMT 06:21 2019 السبت ,19 كانون الثاني / يناير

نوبة قلبية تقتل "الحصان وصاحبته" في آن واحد

GMT 22:33 2018 الأربعاء ,14 تشرين الثاني / نوفمبر

محمد ممدوح يوجه الشكر للجامعة الألمانية عبر "انستغرام"

GMT 16:44 2018 الإثنين ,12 تشرين الثاني / نوفمبر

الأمن المركزي يحبط هجومًا انتحاريًا على كمين في "العريش"

GMT 03:36 2018 الجمعة ,09 تشرين الثاني / نوفمبر

"طرق التجارة في الجزيرة العربية" يضيف 16 قطعة من الإمارات

GMT 01:03 2018 الثلاثاء ,30 تشرين الأول / أكتوبر

طريقة عمل العيش السوري او فاهيتاس بسهولة فى البيت

GMT 08:12 2018 الثلاثاء ,11 أيلول / سبتمبر

ليدي غاغا تُظهر أناقتها خلال العرض الأول لفيلمها

GMT 16:10 2018 السبت ,01 أيلول / سبتمبر

جماهير روما تهاجم إدارة النادي بعد ضربة ميلان
 
Egypt-today

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

egypttoday egypttoday egypttoday egypttoday
Egypttoday Egypttoday Egypttoday
Egypttoday
بناية النخيل - رأس النبع _ خلف السفارة الفرنسية _بيروت - لبنان
Egypt, Lebanan, Lebanon