بقلم - أحمد جلال
عند مناقشة الإصلاح الاقتصادى مع صندوق النقد الدولى عادة ما يدور النقاش حول السبل المختلفة لتقليل عجزى الموازنة وميزان المدفوعات، ومؤخرا برامج الحماية الاجتماعية لتخفيف حدة آلام الإصلاح. وإذا كان الحوار مع البنك الدولى أو بنوك التنمية الإقليمية، مثل بنك التنمية الأفريقى، يتسع النقاش ليشمل موضوعات أخرى، مثل مناخ الاستثمار، والبنية الأساسية، والتعليم، والصحة، والصناعة، والزراعة، والبيئة. القاسم المشترك فى كل الأحوال أن الحوار يتم على مستوى رفيع بين ممثلى المؤسسات الدولية والحكومة المركزية، على افتراض أن الأخيرة قادرة وحدها على حل مشاكل الناس. والحقيقة أن هذه الفرضية مشكوك فى صحتها، بدليل أنه من الممكن أن تقوم الحكومة المركزية بكافة الإصلاحات، ولا يرى المواطن ثمارا لها فى الواقع بسبب فشل المحليات.
هذه المفارقة تثير عددا من الأسئلة: هل يكمن العيب فى برامج الإصلاح نفسها، أم فى كفاءة منظومة المحليات، أم كلتيهما؟ وإذا كانت المحليات تتحمل جزءا من المسؤولية، ما هو المطلوب لإصلاح هذه المنظومة؟
لن أخوض كثيرا فى تقييم برنامج الإصلاح الاقتصادى، وقد فعلت ذلك فى مقال سابق تحت عنوان «إصلاح برنامج الإصلاح»، وتم نشره فى «المصرى اليوم» بتاريخ 10 ديسمبر 2017. يكفى هنا إعادة القول بأننا نحتاج، بالإضافة لبرنامج الإصلاح الكلى فى إطار الاتفاق مع صندوق النقد الدولى، برنامجين آخرين. البرنامج الأول مرتبط بتحقيق الاستغلال الأمثل للموارد المتاحة فى قطاعات الاقتصاد المختلفة (من صناعة، وزراعة وخدمات)، وزيادة إنتاجيتها..
البرنامج الثانى مرتبط بتوفير قدر أكبر من تكافؤ الفرص عن طريق إعادة النظر فى سياسات المالية العامة (من ضرائب وإنفاق) وإصلاح قطاعات التعليم والصحة والمرافق الأساسية. طبعا هناك مبادرات من جانب الحكومة على هذين المحورين، لكنها لا تتسم بالتكامل ودقة التوقيت والتنفيذ التى يتمتع بها برنامج الإصلاح الكلى. ورغم قناعتى بأننا فى حاجة لإصلاح برنامج الإصلاح، فضلا عن تنشيط الحياة السياسية، أعتقد أن أحد أسباب الفجوة بين ما يتم من إصلاح وإحساس المواطن بالإنجاز على أرض الواقع هو فشل المحليات. نعلم جميعا أن المواطن يذهب للمدرسة للحصول على تعليم لأبنائه فى الحى الذى يقطنه، ويذهب المريض إلى أقرب مستشفى طلبا للعلاج، ويذهب أصحاب المحلات والورش والمصانع إلى مسؤولى الإدارة المحلية للحصول على التراخيص اللازمة، كما يذهب المواطن إلى أقسام البوليس القريبة منه فى حالة نشوب خلافات. أى أن تلبية معظم احتياجات المواطن تعتمد على مسؤولين وموظفين فى المحليات، وهؤلاء لديهم من السلطات وغياب المساءلة ما يمكنهم من تعطيل أى آثار إيجابية للإصلاح، الذى يقوم به من يجلسون على قمة الهرم الحكومى. أكثر من ذلك، تتسم المحليات بآفات أخرى، مثل الرشوة والمحسوبية والتقاعس عن تطبيق القانون. ببساطة شديدة، دون إصلاح المحليات، من الممكن أن تتلاشى عوائد الإصلاح على المستوى المركزى، أو أن تضمحل فى أحسن الأحوال. إذا كان الأمر كذلك، فماذا نحن فاعلون؟ فى كثير من الدول التى تحقق توازنا معقولا بين الحكومة المركزية والولايات (أو المحافظات)، مثل أمريكا، يتم اقتسام السلطة بشكل يسمح للمحليات بحرية الحركة وتحمل تبعات النتائج. صحيح أن الولايات تلتزم بدستور البلاد ويخضع سكانها للقوانين المركزية، إلا أنها تتمتع فى نفس الوقت بسمات الحكم الرشيد، من محافظ منتخب، ومجالس محلية منتخبة، ومحكمة دستورية، وقوى أمنية، وولاية على تقديم الخدمات المختلفة. وتستطيع الولايات أن تفرض ضرائب محلية، وأن توجه الإنفاق بالشكل الذى يرضى ناخبيها. بحكم قرب هؤلاء المسؤولين من الواقع، وبحكم أنهم معرضون للمساءلة أمام ناخبيهم، وبحكم المنافسة بين الولايات على جذب الموارد، ليس من المستغرب أن يؤدى كل هذا لتحسن الأداء.
ماذا يعنيه كل هذا بالنسبة لنا، خاصة ونحن على أعتاب إصدار قانون جديد للمحليات؟ أظن أننا أمام فرصة حقيقية لإرساء مبادئ الاستقلالية والمساءلة على المستوى المحلى، دون الإخلال بوحدة الوطن. عدم اغتنام هذه الفرصة يفقدنا إحدى الحلقات الهامة فى تحسين حياة المواطن اليومية. وبالمناسبة، لمن درسوا علم الاقتصاد، ليس من قبيل الصدفة أن النظرية الاقتصادية لها شقان: الاقتصاد الكلى والاقتصاد الجزئى. المقابل لهذه الثنائية أن الحكم الرشيد على مستوى المحليات لا يقل أهمية عن رشادة الحكم على مستوى الدولة.
نقلا عن المصري اليوم القاهرية