بقلم - أحمد جلال
هناك خلاف مزمن بين من يعتقدون أن نظام السوق الحرة قادرة على إحداث تنمية اقتصادية بكفاءة، وبين من يعتقدون أن دور الدولة حاكم فى التنمية ولا يمكن الاستغناء عنه. الفريق الأول يبالغ فى ذكر الحالات التى تفشل فيها الدولة، والفريق الثانى يبالغ فى ذكر الحالات التى تفشل فيها السوق. وعادة ما يصل النقاش بين الفريقين إلى حد تبادل الاتهامات، وفى النهاية تحل الأيديولوجيات المسبقة محل التفكير المنطقى. وإذا كان دستور 2014 قد وصف هوية النظام الاقتصادى المصرى بأنه «سوق حرة منضبطة»، فهذا التوصيف يترك مساحة كبيرة لعدم اليقين. من هنا كان الاجتهاد لفهم هوية الاقتصاد المصرى فرض عين علينا جميعًا.
من باب المشاركة بالرأى فى هذا الموضوع، دعونا نتساءل: ما هى أوجه قصور نظام السوق الحرة، وأوجه قصور تدخل الدولة؟ وهل يمكن الاستفادة من التجارب الدولية لفض هذا الاشتباك؟ وأخيرًا، هل مصر فى حاجة لإعادة النظر فى هويتها الاقتصادية؟.
بادئ ذى بدء، ليس هناك شك فى أن السوق الحرة تنجح فى تخصيص الموارد بكفاءة عندما تتوفر المنافسة الكاملة. الإشكالية أن شروط المنافسة الكاملة لا تتحقق فى بعض الأحيان، وأن آليات السوق غير معنية بعدالة التوزيع، باعتراف الاقتصاديين أنفسهم. فشل الأسواق يحدث، على سبيل المثال، عندما ينفرد منتج واحد بإنتاج سلعة ما، إما بحكم التكنولوجيا (مثل شبكات توزيع الكهرباء أو التليفون الأرضى أو المياه)، أو بفعل فاعل (مثل إسناد الواردات من سلعة معينة لشخص واحد)، وهذا يفتح الباب للاحتكار واستغلال المستهلك. كمثال آخر، آليات السوق تفشل أيضا عندما يكون للسلعة آثار سلبية على الغير (مثل نفايات بعض المصانع)، أو إيجابية (مثل علاج الأمراض المعدية). إضافة لهذا وذاك، هناك بعض المهام التى كانت ومازالت لصيقة بدور الدولة فى كل العصور ولا يمكن تركها لآليات السوق، مثل الدفاع عن الوطن، أو القضاء، أو الحفاظ على الأمن.
فى المقابل، ليس هناك شك أيضا فى أن الدولة يمكن أن تلعب دورا إيجابيا فى الحالات التى تفشل فيها السوق، أو فى حالة امتناع القطاع الخاص عن المساهمة فى أنشطة معينة، مثل البنية الأساسية، أو من أجل تحقيق العدالة الاجتماعية. الإشكالية أن تدخل الدولة عادة ما يصاحبه طغيان الاعتبارات السياسية على معيار الكفاءة، وغياب الحافز الفردى، وتدنى كفاءة الجهاز التنفيذى. ما يدعو للقلق أن هذه المعوقات أكثر تواجدا فى المجتمعات التى تحتاج التنمية أكثر من غيرها.
بين هذا وذاك، ماذا تقول التجارب العالمية؟ أولاً ليس هناك مجتمع يعتمد بشكل كلى على الدولة أو السوق. الطغيان الكامل للدولة ثبت فشله فى الدول الاشتراكية، كما أن المغالاة فى التوجه الرأسمالى أضرت بقضيتى البيئة والعدالة الاجتماعية. ثانيا، أحد العناصر المهمة فى اقتسام الأدوار هو طبيعة النشاط نفسه، حيث إن صناعة ملابس السيدات، على سبيل المثال، لا تتناسب مع بطء وبيروقراطية القرار الحكومى، أما البنية الأساسية فليست كذلك. ثالثا، أن التوليفة المناسبة فى وقت ما قد لا تكون كذلك فى وقت لاحق، ومن صالح الدول ألا تظل حبيسة أيديولوجية معينة، ولنا فى الانفتاح الاقتصادى فى الصين الاشتراكية منذ أواخر السبعينيات مثال حى على ذلك.
ماذا يعنى كل هذا بالنسبة لمصر؟ الأخبار الجيدة أن نظامنا الاقتصادى لا يختلف جوهريا عن نظم الدول الأخرى، من ناحية أنه نظام مختلط. الأخبار غير الجيدة أن الممارسات تشى بخلل فى توزيع الأدوار بين السوق والدولة، وإلا كيف نفسر استمرار الدولة فى إنتاج سلع غير استراتيجية تباع فى أسواق تتوفر فيها المنافسة، وعدم قيامها بدور رقابى فعال على الأسواق الاحتكارية فى قطاعات مثل الكهرباء والاتصالات والغاز والمياه. كما تتسم بعض الممارسات بعدم الإفصاح الكافى، ومنها الدور المستقبلى للجيش فى الاقتصاد، مع الاعتراف بدوره الإيجابى فى المرحلة الحالية. وأخيرا، مازال النقاش العام حول دور الدولة مصبوغا بقدر كبير من العقائد الأيديولوجية.
من كل ما سبق، ظنى أن هوية الاقتصاد المصرى لا تحتاج إعادة النظر بشكل جوهرى. ما نحتاجه هو إعادة توزيع الأدوار بحيث تلعب الدولة الدور الذى لا يمكن ولا يجب أن تلعبه السوق، وتنسحب فيما عدا ذلك. النقطة الحاكمة فى هذه العملية الجراحية هى الصالح العام، وليس الأيديولوجيات المسبقة.
نقلا عن المصري اليوم
المقال يعبّر عن رأي الكاتب وليس بالضرورة رأي الموقع