بقلم - أحمد جلال
لماذا تنجح بعض الدول فى إقناع المستثمر المحلى والأجنبى بالاستثمار فيها، بينما تفشل دول أخرى؟ الإجابة المألوفة هى فروق فى «جودة مناخ الاستثمار»، حيث يذهب المستثمر بدافع الربح إلى البلاد التى تتميز بسهولة إنجاز الأعمال ووفرة البنية الأساسية والعمالة المدربة، والاستقرار السياسى، ويهرب من غيرها. المحور الغائب عن هذه الإجابة هو مصداقية الدول فى الوفاء بتعهداتها فى المستقبل. هذا المحور وحده يمكن أن يمثل الفارق بين دول يتدفق الاستثمار إليها بغزارة فى نشاطات متنوعة، وبلاد يشح فيها الاستثمار، ولا يأتى دون طلب عوائد مرتفعة وضمانات مكلفة.. لماذا تلعب المصداقية هذا الدور الحاكم بالنسبة للمستثمر؟ وكيف تكتسبها الدول؟ وماذا عن مصداقية مصر فى عيون المستثمر؟
أهمية مصداقية الدول فى الوفاء بالتعهدات المستقبلية أن الإنفاق الاستثمارى عادة ما يتم اليوم إلا أن العائد منه يتحقق غدا. هذا يعنى أن جودة مناخ الاستثمار شرط ضرورى لجذب المستثمر، ولكنه شرط غير كافٍ؛ قناعة المستثمر بأن الحكومات التالية سوف تلتزم بوعود الحكومات السابقة تمثل الشرط الكافى. وتزداد أهمية عنصر المصداقية عندما يكون الأمر متعلقا بنشاطات لا يستطيع فيها المستثمر فض الشركة، وبيع أصولها، والرحيل إلى وجهة استثمارية أخرى بسهولة، ولك أن تقارن بين شركة طيران وشركة لتوليد كهرباء. فى الحالة الأولى يستطيع المستثمر، إذا تأزمت الأمور، أن يغلق الشركة، ويبيع الطائرات، ويذهب إلى حال سبيله. فى الحالة الثانية تصفية الأعمال ليست بهذه السهولة، واحتمال الخسارة أكبر بكثير.
إذا كان للمصداقية هذه الأهمية، كيف تكتسبها الدول؟ إحدى المحاولات للإجابة عن هذا السؤال ظهرت فى كتاب بالإنجليزية عام 1997 قام بتحريره «بابلو سبيلر» و«براين ليفى» تحت عنوان «تنظيم الاحتكار، والمؤسسات، والمصداقية: دراسة مقارنة لقطاع الاتصالات»، وكان لى حظ كتابة أحد فصوله. الإجابة التى خلص إليها الكتاب أن مصداقية الدول تعتمد بشكل أساسى على طبيعة مؤسسات الدولة، وتاريخها فى احترام حقوق الملكية. من بين الدول الخمس محل الدراسة (إنجلترا، والفلبين، وجامايكا، وشيلى، والأرجنتين)، لم تستطع جامايكا أن تقنع «كابولز آند وايرلس» بالاستثمار فيها دون شرط الرجوع إلى محكمة فى لندن؛ السبب فى ذلك أن جامايكا يتناوب الحكم فيها حزبان كبيران، وبحكم العادة يغير الحزب الفائز فى الانتخابات ما تعهد به الحزب السابق. على عكس ذلك، استطاعت شيلى إقناع المستثمر بمصداقية التزاماتها بوضعها تفصيلا فى قانون للاتصالات؛ السبب فى ذلك أن تغيير القوانين فى شيلى مسألة صعبة نسبيا، نظرا لتوازن القوى فى البرلمان بين اليمين واليسار والوسط؛ دون شرح مصادر المصداقية فى الدول الأخرى لضيق المساحة. أوضحت الدراسة أيضا أن الدول التى تقل مصداقيتها تضطر إلى تقديم عوائد مرتفعة على الاستثمار، وكثيرا ما يصر المستثمر على شرط التقاضى خارج الدولة، وفى هذا وذاك استنزاف للموارد المحلية.
ماذا عن مصداقية مصر فى عيون المستثمر؟ بعيدا عن مؤشرات مناخ الاستثمار التقليدية، هناك رأيان: الرأى الأول يرى أن مصر لديها من الأسباب ما يجعلها دولة ذات مصداقية. أولا، لم تلجأ مصر للتمصير أو التأميم منذ خمسينيات وستينيات القرن الماضى. ثانيا، يؤكد دستور 2014 على حرمة الملكية الخاصة. ثالثا، تشهد الإصلاحات الاقتصادية الأخيرة على جدية الحكومة وعزمها على استكمال مشوار الإصلاح. الرأى المقابل يستمد أسانيده مما يحدث على أرض الواقع، حيث تتركز الاستثمارات الأجنبية فى مجالات معينة، مثل البترول والغاز الطبيعى والكهرباء، وكلها صفقات تتم بناء على اتفاقيات محددة وضمانات خاصة. فى نفس الوقت، تواجه مصر العديد القضايا المعروضة على هيئات تحكيم دولية، تكسب بعضها وتخسر البعض الآخر. تفسير هاتين الظاهرتين أن نظامنا السياسى لم يصل بعد إلى مرحلة من النضج تطمئن المستثمر، وتقلل من التكلفة المطلوبة لاجتذابه.
إذا كان هذا التحليل صحيحا، فهذا يعنى أن زيادة جاذبية مصر للاستثمار لا تتوقف فقط على تحسين مناخ الاستثمار، بل تمتد إلى العمل على إصلاح المنظومة السياسية بشكل يضمن الفصل بين السلطات، ويسمح للقوى السياسية بالتواجد الفعال على أرض الواقع، فى إطار تطبيق عادل وناجز للقانون، وإعلاء لحرية التعبير والمساءلة. غياب الإصلاح السياسى معناه استمرار صعوبة إقناع المستثمر المحلى والأجنبى بالتوطن فى مصر بتكلفة معقولة.
نقلا عن المصري اليوم
المقال يعبّر عن رأي الكاتب وليس بالضرورة رأي الموقع