بقلم : داليا شمس
المفارقة أن زياد كلو، المحامي الفرنسي الذي تنتمي أمه لعائلة صنبر الفلسطينية، اكتشف انهيار حل الدولتين في العام نفسه الذي توفي فيه الشاعر محمود درويش، بل بعدها بأيام. وكان درويش هو من كتب وثيقة إعلان استقلال دولة فلسطين في نوفمبر 1988 (للمرة الثانية، فالأولى كانت عام 1948) ووافقت من خلالها منظمة التحرير الفلسطينية أن تعيش جنبا إلى جنب مع إسرائيل، على 22% فقط من أراضيها التاريخية، وحددت القدس عاصمة أبدية لهذه الدولة.
يروي زياد كلو في كتابه "لن تكون هناك دولة فلسطينية"، الذي صدر بالفرنسية في 2010 عن دار نشر ماكس ميلو، كيف تبدد الأمل في إنشاء دول فلسطينية مستقلة، في ظل سياسات الاحتلال وإقامة المستوطنات، مع استمرار مفاوضات سلام غير جدية، وظيفتها أن تعطي انطباعا دوليا أن هناك تحسن، في حين ما يحدث على الأرض غير ذلك. الوضع معقد. وأصعب شيء هو أن يغذي بعض المسؤولين أملا لدى الناس وهم يعرفون أن الدولة صارت بلا أمل، لذا يأتي ذكر الأمل وفقدانه مرات ومرات في الكتاب. أراد كلو أن يدلي بشهادته كأحد من شاركوا في مفاوضات أنابوليس بصفته مستشارا قانونيا مكلفا بدراسة ملف اللاجئين، ضمن فريق المفاوضين الفلسطينيين برئاسة صائب عريقات، وتحديدا كان ضمن فريق وحدة دعم المفاوضات الذي تموله جهات غربية بهدف تشجيع استئناف مفاوضات الوضع الدائم.
قضى سنة في رام الله بسبب عمله في الفترة ما بين يناير 2008 ويناير 2009، متجولا بين حدود فلسطين وإسرائيل. راح يبحث عن بيت جده في حيفا، تساوره مشاعر فياضة ومتناقضة، فهو كالعديد من فريق عمل مشروع وحدة دعم المفاوضات كان له جذور هنا، وعلى هذه الأرض تصبح ذكريات والدته حقيقة مُرة، و قد حٌمل بها عبر سنوات عمره الثلاثين.
***
كانت فلسطين في حالة حداد بسبب رحيل محمود درويش في 19 أغسطس 2008، وتيقن وقتها زياد كلو من انهيار حل الدولتين وحلم عودة اللاجئين، مع ذهاب من قال: " نعاني من مرض عضال اسمه الأمل"، الأمل في أن يكون الفلسطينيون بشرا عاديين، لا ضحايا ولا أبطال. وقال أيضا: "هنا، عند منحدرات التلال، أمام الغروب وفوهة الوقت، قرب بساتين مقطوعة الظل، نفعل ما يفعله السجناء، وما يفعله العاطلون عن العمل، نربي الأمل"، وفي موضع آخر قال: "هل في وسعي أن أختار أحلامي، لئلا أحلم بما لا يتحقق". أبيات درويش تتدافع إلى رأس كل من يقرأ الكتاب، خاصة أنه رفض مبكرا تأييد إعلان مبادئ أوسلو، وقدم استقالته من عضوية المكتب التنفيذي لمنظمة التحرير الفلسطينية، لأنه كان يعرف أن نص الاتفاق غامض ويخدم الأقوى أي الاحتلال الإسرائيلي، وهو ما حدث بالفعل وما نتأكد منه يوما تلو الآخر، خاصة بعد قدوم إدارة ترامب وقرب الإعلان عن ما يسمى "صفقة القرن".
***
عاودت قراءة زياد كلو في ظل الأحداث الجارية، وفهمت أكثر لماذا فضل الحديث عن دولة واحدة ثنائية القومية في إسرائيل والضفة وقطاع غزة، يكون فيها للسكان العرب واليهود حقوق متساوية كمواطنين، ولماذا يرفض هذا الحل أطراف من الجانبين. يفصل كلو كيف لم يعد هناك أرض ولا ماء لحل الدولتين الذي تمحورت حوله مفاوضات السلام الفلسطينية الإسرائيلية منذ اتفاقية أوسلو، ويدخلنا إلى كواليس التفاوض فيشرح أن ما كان يقال في العلن حول وقف التفاوض خلال الحرب على غزة كان مجرد تصريحات للاستهلاك الإعلامي، والحال نفسه بالنسبة لملف اللاجئين الذي لم يكن يرغب أحد في توليه.
لا يدين المؤلف بوضوح السلطة الفلسطينية وإن كان يفعل بشكل غير مباشر، مع تفهم صعوبة الضغوطات والمسائل المادية التي تسمح بوجودها وبتلبية مطالب شعب، لكنها تعطي أملا كاذبا وتشارك في لعبة المجتمع الدولي، وإن كان بعض أفرادها يحاولون تصديق بريق الأمل الذي يصفه الكاتب "بالملهاة أو العرض المسرحي"، وقد قرر ألا يكون ضمن من يشاركون فيه فاستقال.
لم يستطع إتباع فلسفة اللامبالاة التي يقول عنها محمود درويش "إنها صفة من صفات الأمل"، لكنه جعلنا نتجول معه في ربوع فلسطين التي لا نستطيع زيارتها، وندلف إلى كواليس مفاوضات محبطة ونسرح في تناقضات السلطة ونترحم على محمود درويش الذي تحل ذكراه بعد أقل من شهر.
نقلًا عن الشروق القاهرية
المقال يعبّر عن رأي الكاتب وليس بالضرورة رأي الموقع