بقلم : داليا شمس
أسبوع من الأتربة كان كفيلا أن يتلف رهافة أغشية الشم عندى. تراكم على وجهى الدخان والغبار. خنقتنى روائح الجو من ناحية. ومن ناحية أخرى تتابعت روايات الأصدقاء حول فقدهم لحاسة الشم بسبب إصابتهم بالكورونا، وأخذ بعضهم، بحسب المراحل التى مر بها، يدلى بدلوه حول تسبب الفيروس لروائح وهمية، كما يحدث أحيانا عند الإصابة بالتهابات فى الجهاز التنفسى، وأنه حتى مع تعافى الحواس تعود حاسة الشم إلى قوتها بسرعات مختلفة. كانت الحكايات حول الروائح بمثابة فاصل للدهشة. وضع الكثيرون منهم أشياء مختلفة تحت أنف أبنائهم وطلبوا منهم أن يحزروا ما هو، بعد أن غطوا عيونهم، وكانت النتيجة «هم يضحك وهم يبكى» كما يقولون، ما جعلنى أسترجع أرشيف الروائح الذى نحتفظ به فى أجسامنا، خاصة وأن حاسة الشم ترتبط بجزء الذاكرة والمشاعر فى الدماغ.
صارت أفكارى تسرح فى تجاويف ذاكرتى وقررت أن ألوذ بخيال العطور وسحر الروائح، حينها بدأت تتحرك أمامى مشاهد تتعلق بطفولتى، مشاهد بعيدة أدخلتنى إلى عالم ألوان ومطيبات، أبخرة توابل ومسك، مساحيق تذوب فى الماء لتتحول إلى معانٍ تلونت بها أيامنا.
***
عطر.. فى البداية ظهرت أمامى صورة غرفة نوم جدتى يفوح منها عطرها الفرنسى الأثير. قارورة صغيرة وُضعت فى علبة مزينة بالأخضر والأبيض، كُتب عليها (Ma griffe) وتعنى أثرى المميز أو ما يبقى من العطر فى الأجواء، لم أعد أراها على أرفف محلات العطور، إلا أنها لا تزال موجودة على ما يبدو، رغم أن بيت أزياء «كارفن» الذى أنتجها فى منتصف الأربعينيات قد أشهر إفلاسه قبل سنوات قليلة لحمايته من الدائنين ووُضع تحت حماية المحكمة التجارية.
طبيعى.. لا شيء يبقى على حاله، وهو ما ينطبق أيضا على غرفة نوم الجدة التى كانت كخلوة الناسك، لا يُسمح بأن يتطفل عليها أحد، ويكون الحديث فيها همسا. كنت عندما أنجح فى التسلل إليها أشعر أننى فى قدس الأقداس، أعبث بما قد يقع تحت يدى وأنسج خيوط الحكايات وتلازمنى رائحة ذلك العطر بتركيبته التى اخترعها جون كارل، واحد من أهم خبراء العطور فى العالم، مزيج من زهور الجاردينيا والليمون والسوسن والياسمين وزنابق الوادى وبراعم البرتقال والمسك وخشب الصندل والقرفة. كان صانع العطر، صاحب المدرسة الرائدة فى هذا المجال، لا يخشى من طغيان رائحة على باقى المكونات، ويعرف أنه لا ينبغى التخوف من الروائح التى تفرض شخصيتها فهى ما قد يكسب العطر جاذبية فريدة. فقد كارل، الذى توفى فى الستينيات، حاسة الشم فى أواخر أيامه ما جعلهم يشبهونه ببيتهوفن، الموسيقى الأصم، فكلاهما استمر فى إبداعاته حتى النهاية. لم يسمحا بأن تكون النهايات بائسة، مثلما كانت جدتى التى لم ترغب هى الأخرى فى الاستسلام طالما لديها عقل يقظ. ظلت تقاوم الأعطاب المفاجئة التى تصيب الجسم مع تقدم العمر واستوعبت فكرة تغير الروائح من حولها، فمع اقتراب النهايات سيطرت رائحة كولونيا الليمون واللافندر والكحول المطهر واستبدت بالغرفة، غطت على آثار عطر كارفن الذى ارتبط بمرحلة بائدة. وبعد الرحيل، لم تبق سوى رائحة جلدها عالقة بالوسادة وبملابسها المستعملة.
بِنج. رائحة مواد التخدير النفاذة التى تكتم النفس، تستدعى صورة طبيب الأنف والأذن والحنجرة الذى كنت أتردد على عيادته وأنا فى السابعة من عمرى لمتابعة عملية اللحمية بعد استئصال اللوزتين. لم أعرف قط سر هذه الرائحة القوية التى لم أجدها حتى فى أروقة المستشفيات، لماذا كانت بهذه الكثافة والوضوح؟ تطاردك بمجرد الوصول إلى صالة الاستقبال الواسعة حيث أقف أمام الخزانة الزجاجية الكبيرة التى تشبه فاترينة العرض فى محال الحلويات، وقد تراصت فيها أدوات الجراحة المعدنية التقليدية: مشارط ومِقَصات وأشياء أخرى وُضعت جنبا إلى جنب بنظام شديد أظنه لم يتغير من زيارة إلى أخرى. أحملق فيهم عند حضورى، وأتخيل كيف سيتم استخدامهم فى أنفى، ثم تذكرنى الرائحة بصوت الطبيب وهو يتحدث معى بعد حقنة التخدير حتى أروح فى غفوة. لا يزال الصوت يمتزج بتلك الرائحة وبقصة «البنج» الذى استعملته مصر فى الجراحة منذ عام 1848، أى بعد سنة واحدة من استخدام السير جيمس سمبسون له فى بريطانيا.
خبز.. بالطبع تختلف الرائحة باختلاف نوع الخبز، فالبلدى بالرَدة ليس له نفس نكهة الفينو أو الباجيت، لكن على كل حال لا يزعجنى تداخل الروائح وتناقضها، فقد سكن بعضها أحلامى ولم أستطع قط مقاومة المخبوزات الساخنة وهى بلهيب الفرن. الخبز يَعِدُ بصباحات نادية ومتفائلة مثل اللبن الحليب، لكن هناك نوعا معينا من الخبز ارتبط فى ذهنى بطقس خاص أسبوعى كنت أنتظره بفارغ الصبر وأنا طفلة لم أتجاوز الرابعة أو الخامسة، وهو مرور بعض الأصدقاء المسيحيين، بعد انتهائهم من صلاة الأحد، على البيت الذى استأجره أهلى بالمدينة الساحلية خلال الصيف، وكان إلى جوار كنيسة كبيرة بيضاء. اعتادوا أن يأتوا إلينا فرادى بعد القداس، واحدا تلو الآخر، حاملين معهم قربانا صغيرا طازجا. كنت أنتظره ببهجة الأعياد وأسعد بحوارات الزائرين الكرام ولكناتهم المختلفة، فبعضهم من أصول شامية أو تركية إلى ما غير ذلك، هبطوا جميعا على مصر لأسباب متعددة، لكن المفضلة لدى كانت تلك السيدة الروسية الأنيقة دائما، ذات الشعر الأبيض والملابس الكلاسيكية، التى تعطينى القربان اللذيذ إضافة إلى حفنة صغيرة من المِلبِّس الملون. اختارت ألا تغادر مصر بعد وفاة زوجها الذى كان عميدا لكلية الطب البيطرى، وظلت تتردد على الأماكن نفسها التى أحباها معا، تزور بلادها مرة فى السنة وترجع محملة بعلب الملبس الذى لم أره سوى معها. تضعه فى حقيبة يدها، وكلما أرادت أن تدلل أحدا تملأ كفه بالحلويات.
***
تلك روائح زمن فات لا علاقة لها بما نحن فيه الآن ولا بهلاوس الكورونا. احتفاء بحاسة الشم التى اعتبرها فلاسفة اليونان قديما فى مرتبة أدنى عن سائر الحواس، مفضلين عليها مثلا السمع والبصر لأنهما فى رأيهم مرتبطان أكثر بالفكر والإدراك. لم يتم إعادة النظر جذريا فى حاسة الشم إلا خلال سبعينيات القرن الماضى، بدأ الالتفات إليها أكثر مع إعادة اكتشاف الجسد والاهتمام بدراسات الذكاء الوجدانى والحسى، وها نحن نرد لها الاعتبار حين نشعر أننا قد نفقدها فى أى وقت، فما يحدث لا يشبه أى شيء عرفناه من قبل.