بقلم : داليا شمس
صادفنى على الفيسبوك إعلان يرجع تاريخه لنهاية أربعينيات القرن الماضى، وهو عن ماركة صابون محلية اسمها «سانلايت»، ويعد أول إعلان كرتون سينمائى عثر عليه حتى الآن. فيلم تحريك طريف جدا من إبداع وتنفيذ الإخوة فرنكل الذين ابتكروا فى منتصف الثلاثينيات شخصية كرتونية مصرية وأطلقوا عليها «مشمش أفندى» متأثرين بميكى ماوس الذى اخترعه ديزنى قبلها ببضع سنوات.
حظى الإخوة فرنكل باهتمام ملحوظ منذ منتصف التسعينيات، فقد أعدنا محليا وعالميا اكتشاف ميراثهم من الأفلام بفضل رسالة وجهها أحد أبنائهم إلى معهد العالم العربى بباريس، بمناسبة الاحتفال وقتها بمئوية السينما المصرية، قال فيها إنه عثر على أفلام التحريك التى صنعها أبوه شلومو (سالومون) وأعمامه ديفيد وهرشل، والتى يصل عددها إلى حوالى ثلاثين فيلما، فى قبو منزل العائلة بضواحى العاصمة الفرنسية حيث أقاموا منذ رحيلهم عن مصر فى مطلع الخمسينيات. وبالطبع كانت هذه الأفلام مهمة للغاية بالنسبة لمئوية السينما لأنها أول أفلام تحريك فى تاريخ العالم العربى، وقد تم ترميمها بالفعل بمساعدة المعهد الفرنسى للسينما والصور المتحركة (سى إن سي) وعرضها فى أماكن وبلدان مختلفة من بينها مصر. وعرف الناس أكثر عن حكاية الإخوة فرنكل الذين جاءوا بصحبة أهلهم إلى الإسكندرية إبان الحرب العالمية الأولى، هاجروا بدايةً من بيلاروسيا عام 1905 بسبب اضطهاد اليهود فى الإمبراطورية الروسية بعد محاولة اغتيال القيصر، واستقروا فى مدينة يافا لكنهم لم يتمكنوا من العيش فيها طويلا لإساءة السلطات العثمانية معاملة المهاجرين القادمين من بلدان معادية، لذا قرروا الاستقرار فى مصر التى كانت تخضع للانتداب البريطانى آنذاك.
***
جزء آخر من تاريخ مصر متعددة الأطياف فى بدايات القرن الماضى، فهذه العائلة من اليهود الأشكناز ذات الميول الفنية الواضحة وجدت ضالتها فى المدينة المفتوحة على البحر والثقافات الأخرى. الأب الذى عمل كمصور فوتوغرافى فى السابق، ثم امتلك مكتبة لبيع وتجليد الكتب فى يافا، تحول تدريجيا إلى تصميم وصناعة الأثاث المستلهم من الفنون الصينية والمدهون بألوان اللاكيه، بمشاركة أولاده الذين برع كل منهم فى شيء مختلف وجمعهم حب السينما والأدب: ديفيد (1914ــ1994) كان رساما ماهرا، وشلومو (1912ــ2001) كان يهوى الإلكترونيات والأمور التقنية، أما هرشل (1902ــ1972) فقد كان مولعا بالسينما الأمريكية وخاصةً أفلام شارلى شابلن، إذ كان يرى تشابها بينها وبين حياته.
بعد نجاح أفلام ميكى ماوس والقط فيليكس فى مصر، فكرت العائلة متعددة المواهب فى صنع أفلام تحريك مماثلة، وعكف الأب والأبناء على دراسة الموضوع ونفذوا بالفعل فيلما، مدته عشر دقائق، بعنوان «القرد ماركو»، عبارة عن خمسة عشر ألف لوحة مرسومة تُعرض فى تسلسل بسرعة فائقة، من خلال آلة ركبها شلومو ببراعته اليدوية المعهودة. لم يلق الفيلم الثناء المتوقع، بل انتقده كاتب فى جريدة الأهرام لأنه لم يعتمد على شخصيات وموضوعات محلية، بل جاء محاكيا للأسلوب الغربى، ما جعل فريق العمل يقرر إعادة التجربة بعد ابتكار شخصية «مشمش أفندى» الذى تمتع بروح الدعابة المصرية ووضع طربوشا على رأسه كأفندية هذا العصر، فصار يشبه كاريكاتير «المصرى أفندى» لصاروخان، لكن أصغر سنا. ونظرا لأنهم لم يجدوا منتِجا يشجع فكرتهم ويدعمها، حتى طلعت حرب مؤسس استوديو مصر، وكانت جملة «مافيش فايدة» تلاحقهم، وكذلك تعليق «بكرة فى المشمش» للتأكيد على رفض الاستثمار فى هذا المجال، فقد قرروا أن يكون اسم شخصيتهم الكرتونية «مشمش أفندى»، ويكون عنوان أول فيلم من بطولته «مافيش فايدة».
حقق الفيلم نجاحا ساحقا منذ عرضه لأول مرة فى الثامن من فبراير عام 1936، بسينما كوزموجراف بالقاهرة، واستغرق 8 دقائق ونصف. واستمر لأكثر من ثلاث سنوات فى دور السينما المصرية، ومن بعدها توالت مغامرات مشمش أفندى وحبيبته بهية، وكان يتم الدمج أحيانا بين الشخصيات المصورة ونجوم حقيقيين مثل صباح وتحية كاريوكا. حاولت السلطات استثمار هذا النجاح فطلبت من الإخوة فرنكل المشاركة بفيلم تحريك بعنوان «الدفاع الوطني»، عام 1939، لجمع تبرعات ودعم الجيش المصرى خلال الحرب العالمية الثانية، جاءت فيه عبارات على نحو «اشتروا مصر السعيدة بالتبرع للدفاع»، وتحول فيه «مشمش» إلى جندى يحث حتى الأجانب المقيمين فى مصر على المشاركة فى دعم الجيش. فى مرات أخرى، كان مشمش يساهم فى حملات توعية كتلك التى مولها النادى الملكى للسيارات بهدف تقليل استخدام آلات التنبيه، وأحيانا كان يوجه رسائل للمجتمع كما فى «مشمش الشاطر»، عام 1949، حين يحصل الشاب اللاهى على جزائه بعد أن كان يتحرش بالفتيات فى الشارع قائلا: «يا أحلى من العرقسوس، يا حتة من مصارين مشمش. وكالعادة قام المنولوجست الشهير أحمد متولى بالأداء الصوتى لشخصية مشمش.
***
وفى عام 1951، مع زيادة التوتر بين العرب واليهود فى أعقاب حرب فلسطين وقيام دولة إسرائيل، قررت عائلة فرنكل مغادرة مصر متجهين إلى فرنسا. حملوا «وثيقة طريق» وأخرجوا أفلامهم على أنها من إنتاج أجنبى. حاول الإخوة الثلاثة الاستمرار فى صنع أفلام تحريك كما فى مصر، فألبسوا مشمش «البيريه» بدلا من الطربوش، وفَرنسوا اسمه فأطلقوا عليه «ميميش» وعلى صديقته «جيني» بدلا من بهية، ولكن جاء فيلمهم الأخير سنة 1964، إذ لم يتفاعل معهم الجمهور الفرنسى على النحو المرجو. ربما لم تلمس سخريتهم قلوب الفرنسيين، فروح الدعابة لديهم كانت أقرب للمصريين بحكم النشأة، وظلت أفلامهم فى القبو... جزء من الأرشيف المصرى المصور ومن ذكرياتهم التى اعتزوا بها، أرادوا أن يدفنوها فى مكان أمين للحفاظ عليها، ويمضوا قدما فى حياتهم التى فرضتها عليهم الظروف.