القاهرة ـ مصر اليوم
بيت عائلى بُنى على مهل منذ التسعينيات، بعيدا عن ضجيج المدن. لا تتشابه غرف نومه، فكل منها له مساحة مختلفة ويحمل مفاجأة فى تفصيلة ما. سحر المكان يفرض نفسه، أمامك هرم سنفرو المنحنى وبركة دهشور أو بركة الملك؛ حيث كان يأتى الملك فاروق لصيد البط والطيور المهاجرة، وخلفك أشجار النخيل الكثيفة ذات الأطوال المتباينة على امتداد البصر، وفى الحديقة تحيط بك أشجار المانجو بأنواعها.
وسط كل هذا السكون يرتفع صوت المخرجة والمنتجة، ماريان خورى، صاحبة المنزل، ولا تستطيع تحديد مصدره بسهولة فهى تتنقل بملابسها العملية الواسعة هنا وهناك، وتشاغب من يعملون معها من أبناء القرية يمينا وشمالا، تتصرف كزعيمة قبيلة، تدعو أحدهم لمائدة الطعام أو تشارك آخرين فى ترتيب الوسائد ووضع الكراسى استعدادا لاستقبال الضيوف. توزع الأدوار: من سيكون أعلى السطح لكى يستمتع الناس بأفول الشمس لحظة الغروب، ومن سيقوم بتحضير الأفلام فى مبنى صالة العرض الجديدة الذى ألحقته مؤخرا بالمكان كجزء من خطة تطوير «الدهشورية»، فقد استقبل البيت فى السنوات الأخيرة العديد من الإقامات الفنية والورش: محاضرة مفتوحة بالاشتراك مع أتيليه «فاران» الفرنسى المتخصص فى التدريب السينمائى قدمتها المخرجة كريستين سيغيزى، برنامج لتطوير السيناريو مع أيمن الأمير أو تطوير الأفلام بمساعدة المخرجة والمنتجة ديمة الجندى، ورشة للكتابة الإبداعية مع المخرج نمير عبدالمسيح وأخرى للمرجعية الذاتية مع المخرج باسل رمسيس الذى يشرف حاليا على ورشة حول الأفلام التسجيلية المنخفضة التكاليف التى يقوم بها شخص واحد، مدتها 13 يوما.
يقيم المشاركون فى الورشة خلال هذه الفترة ببيت الدهشورية، يذهبون لتصوير فيلم عن موضوع بسيط: علاقة شخصية أو حدث أو مكان، ثم يعودون لمناقشة الأفكار والعمل على المونتاج إلى ما غير ذلك. وفى بعض الأحيان تكون هناك شراكة بين «الدهشورية» وجهات مانحة تساعد الفنانين المبتدئين والشباب على الالتحاق بالدورات المتخصصة التى تقام فى المكان، فالغرض من المشروع هو خلق مناخ إبداعى وتشبيك مجموعة من الفنانين وأصحاب الأفكار.
***
كما بَنت ماريان خورى بيت دهشور على مهل، فقد دأبت أيضا على تطوير مشروعاتها الفنية خطوة بخطوة. حلمت قبل سنوات بتنظيم حدث خاص لعرض الأفلام الأوروبية وكسر السيطرة الهوليودية على السوق فى مصر، فكانت «بانوراما الفيلم الأوروبى» التى تحتفل حاليا بدورتها الثالثة عشرة. بعدها بأعوام قليلة افتتحت سينما «زاوية» بوسط القاهرة ونجحت فى جذب جمهور تواق لرؤية أفلام مختلفة والتعرف على تجارب فنية متعددة، فصار تقريبا لا يذهب إلى دور عرض أخرى. اعتمدت فى تنظيم البانوراما وإدارة سينما زاوية على مجموعة من الشباب، على رأسهم ابنها يوسف الشاذلى، فهى ابنة تجربة عائلة فنية: خالها هو المخرج يوسف شاهين وأبوها المنتج جون خورى وأخوها المنتج والموزع جابى (جبرائيل) خورى، لذا فهى تجيد مزج الفن بحس ريادة الأعمال الثقافية والتسويق ما يتيح لأفكارها نوعا من الاستدامة. والضامن أيضا لاستمرارية مشروعات العائلة الفنية هو انغماس الجيل الجديد فى العمل بالمجال نفسه، فابنة ماريان ــ سارة الشاذلي ــ درست السينما بكوبا، وابنة جابى درست البيزنس فى فرنسا وعادت مؤخرا لكى تأخذ مكانها إلى جوار والدها، وهكذا نجد أنفسنا بالفعل أمام «قبيلة» تسعى ماريان لتوسيع دائرتها من خلال مجتمع «الدهشورية» الذى يتخذ طريقه فى دروب ضيقة بين النخيل.
ساعدت شبكات التواصل الاجتماعى خلال الألفية الثانية فى انتشار هذه النوعية من أماكن الإقامة الفنية والورش التى تسمح بتحقيق درجة أكبر من التفاعل بين المشاركين فيها، تعطى فسحة للتفكير والاختلاء بالنفس وتطوير المشروعات، كما تكون عادة فرصة للفنانين المبتدئين للانخراط فى السوق أو فى الوسط الثقافى والتعرف على أبجديات المهنة، ففى مرحلة أولى يكون الشخص الموهوب بحاجة إلى التنقيب عن إمكانياته الشخصية ولغته الخاصة، بعيدا عن السائد. يريد أن يشطح بخياله فيجد فى أماكن كالدهشورية وغيرها من يشاركونه الحلم. وفى مرحلة تالية يصبح لديه منتج أو أكثر ويضطر للاشتباك مع قواعد السوق، وهنا قد تلعب مثل هذه «البيئات الحاضنة» دورا من خلال مساندة الفنانين لعرض أعمالهم سواء كانت فنا تشكيليا أو سينما أو موسيقى.. إلخ، فأحيانا يكون من المطلوب أن تلعب مثل هذه الأماكن الفنية دورا تسويقيا أو ترويجيا إلى جانب هدفها التعليمى، دون إنكار شِقها التجارى الذى يسمح بوجودها واستمرارها.
***
على سبيل المثال لا الحصر حين تتيح ماريان فرصة لمشاهدة بعض الأفلام التى أخرجها شباب الدهشورية، نكتشف نتاج بعض الورش التى أقيمت فى «بيت النخيل». نتعرف على الفيلم القصير «بحرى» لأحمد الغنيمى الذى يُحَضر حاليا فيلما طويلا بعنوان «آخر واحد فينا»، بعد أن شارك شريطه التسجيلى «الموعود»، حول سكان مدينة الفسطاط التاريخية، بالدورة الأخيرة لمهرجان برلين. تطرح زينب زكى العديد من أسئلة «ماذا لو؟» فى عرض سريع لفيلمها الذى شرعت فى تنفيذه بعد مشاركتها فى ورشة «المرجعية الذاتية» مع باسل رمسيس، والتى سمحت لها على ما يبدو بالكثير من مكاشفة الذات، ونظل فى سياق المواجهات الشخصية من خلال فيلم «الحفرة» لعمرو عابد، من إنتاج كريم قاسم. شارك عابد أيضا فى ورشة «المرجعية الذاتية» قبل أربع سنوات وخرج بهذا الفيلم القصير الذى يروى تفاصيل مصارحة عنيفة بين أخ وأخيه، تنتهى بردم أحدهما للآخر داخل حفرة، أما «الرائد طوم» لخالد معيط فقد تم تصويره بالكامل فى غرفة نوم الأخير لأننا بصدد حكاية شاب يعيش منفردا فى عالمه الخاص ويسعى للوصول إلى الفضاء. ثم جاء فيلم سارة الشاذلى القصير «إيزابيل» ليعبر بحس مرهف عن علاقة ابنة بأمها الغائبة معظم الوقت، حتى إننا نتوهم للحظات أن المربية هى أم الطفلة. وتوضح المخرجة الشابة أنها بصدد تطوير مشروع فيلمها الطويل الذى أطلقت عليه مبدئيا عنوان «خوجاية». سارة لم تشارك ربما فى ورش الدهشورية، لكنها كبرت فى هذا البيت ورأته يتسع يوما بعد يوم، حتى صار نواة لمجتمع مبدع يدمج أشخاص من البيئة المحيطة التى توحى بالكثير من الخيال. يكفى أن نمعن النظر فى هرم سنفرو لنسرح فى السيناريوهات المختلفة لبنائه وظروف نشأته وما حدث للمهندس الذى حاد عن التصميم الأصلى أو فشل فيه.