بقلم : داليا شمس
هل الطماطم تنمو أسرع على مؤلفات فاجنر الكلاسيكية أم على أنغام الموسيقى اليونانية التقليدية؟ هذا سؤال جوهرى بالنسبة لأبطال الفيلم الوثائقى ومرتبط ارتباطا وثيقا بعنوانه "حين التقت الطماطم مع موسيقى فاجنر" للمخرجة اليونانية ماريانا إيكونومو. وقد عُرض الفيلم "أونلاين" ضمن فاعليات "قافلة بين سينمائيات" (www.womencaravan.online) التى تمتد حتى 13 أكتوبر الجارى، والتى تتيح مشاهدة الأفلام المشاركة لمدة 48 ساعة بالمجان.
فى قرية صغيرة بوسط اليونان لم يبق تقريبا سوى مجموعة من كبار السن، فقد رحل معظم الشباب سعيًا وراء ظروف عيش أفضل. خريستو وأليكو رَجُلان فى منتصف العمر تمسكا بحلمهما القديم واستمرا فى إنتاج الطماطم العضوية والقمح والعسل. التف حولهما أغلب سكان القرية التى يبلغ تعدادها 33 شخصا وبخاصة السيدات العجائز. نتابع حركاتهن وأحاديثهن التلقائية حول المتاعب اليومية وقصص حبهن القديمة. تقول إحداهن إن حياتنا جميعا هى نوع من أنواع المغامرة، وهو ما ينطبق أيضا على تجربة هذه القرية العجيبة التى تلخص العديد من المشكلات الخاصة بالظروف الاقتصادية والعولمة وقواعد السوق وذلك من خلال برطمانات الصلصة والوجبات الجاهزة التى يسعى الشريكان إلى تصديرها بمساعدة نساء القرية المسنات.
***
أليكو يحب رواية القصص خاصة تلك التى يردد فيها حكاية بذور الطماطم التى يزرعونها فى هذه المنطقة ذات الأراضى الخصبة. أتى بها كريستوفر كولومبس من أمريكا الشمالية وأدخلها إلى أوروبا قبل خمسمائة عام، اختفت من موطنها الأصلى بسبب تهجين النباتات إلى ما غير ذلك، واستمرت زراعتها فى اليونان، وهو يريد تصديرها الآن مجددا إلى أمريكا وسائر بلاد العالم.
الأحاديث الجانبية فى هذا الفيلم ذكية وشيقة، بدايةً من النقاش المستمر بين المزارعين حول تشغيل الموسيقى وسط حقول الطماطم لتزداد نضجا وإنتاجية، وحتى كلام النساء حول حياتهن الخاصة والمناكفات المرحة. خريستو جرب الموسيقى اليونانية التى يحبها ولاحظ أن المحصول صار أربعة أضعاف السابق، فماذا عن فاجنر المفضل لدى أليكو؟
يرى الأخير أن النتيجة ستكون قطعا مُرضية، فهو يعشق الموسيقى الكلاسيكية، وحين توقفت عند اختياره لفاجنر (1813ــ 1883) فهمت أن قربه منه لهذا الحد يرجع غالبا لتأثر المؤلف الموسيقى والكاتب الألمانى بالنموذج اليونانى القديم فى الموسيقى والأدب، فهو إذًا حريص وفخور بيونانيته التى شكلت ملامح العصر الرومانسى الألمانى، كما هو حريص وفخور ببذور الطماطم التى يزرعها.
تركيبة فيها أيضا الكثير من الرومانسية، رومانسية الحلم وثقل الماضى، التى تجعله يبحث عن بدائل فى الظروف الصعبة ويحاول أن يظل موجودا رغم قواعد عامة وظروف تقهره وتحطم آماله فى كل مرة.
يقف أليكو وسط النساء الكبيرات ويشرح لهن أين تقع قرية "إلياس" على الخارطة حتى لو لم يكن اسمها مكتوبا، ويوضح لهن إلى أين ستصل شُحنات الصلصة والعسل التى يقمن بتحضيرها للسفر. كل شيء يتم يدويا، بما فى ذلك وضع الملصق على البرطمان، وطبخ الصلصة طبقا للوصفات التقليدية.
***
مجموعة تغرد خارج السرب، وحين يسافر هؤلاء، رجالا ونساءً، إلى بلجيكا مقر الاتحاد الأوروبى ويتفقدون منتجاتهم على أرفف السوبر ماركت تكون فرحتهم عارمة، لكن سرعان ما يمسك بهم الواقع. يلفت البعض نظرهم إلى أهمية التسويق بالشكل المتعارف عليه وإلى حسابات ومعدلات ربحية مختلفة عن التى فكروا فيها... هم ليسوا جزءا من الأسواق العالمية ولا يتبعون مواصفاتها.
هذا ما نفهمه بعذوبة ومرح وشاعرية من خلال الفيلم، دون خطابات سياسية مطولة. يلمس الوثائقى شيئا بداخلنا، كما أعمال سابقة للمخرجة الخمسينية التى درست الأنثروبولوجيا والتصوير الصحفى والإنتاج السينمائى فى لندن ونالت العديد من الجوائز العالمية. فى فيلم لها بعنوان "الحب مقابل الغذاء" (2013) تناولت علاقة الأمهات اليونانيات بأولادهن، من خلال متابعتها لثلاث أمهات يحضرن ما لذ وطاب من الطعام لإرساله للأبناء الذين يدرسون بعيدا عنهن فى الخارج أو فى الداخل. حاولت تحليل مشاعر وسلوك الأمهات، دون إدانة أو أحكام مسبقة، وهو ما قد نفهمه نحن فى مصر وغيرها من البلدان الشرقية بخلاف الغرب حيث يتمتع الأبناء باستقلالية مبكرة، أما فيلمها التالى "السباق الطويل"، عام 2015، فقد تعرض لحكاية طفلين من سوريا والعراق معتقلين فى السجون اليونانية بتهمة تهريب مهاجرين غير شرعيين.
موضوعات قريبة من القلب ومن اهتماماتنا، تخلط الخاص بالعام والمحلى بما هو أشمل، كما فعلت المخرجة فى الوثائقى "حين التقت الطماطم مع موسيقى فاجنر". وهو ملمح يميز عادة أفلام "قافلة بين سينمائيات".