بقلم : داليا شمس
من شارع إلى زقاق، تقودك قدماك إلى سكة سوق مِسكة بالسيدة زينب، حيث يوجد مسجد قديم من القرن الرابع عشر الميلادي، وسط منازل لا شيء يميزها. يعرف السكان طريقهم إلى الست مِسكة التي كانوا يحتفلون بمولدها كل عام في الثالث والعشرين من شهر شعبان، إلى وقت ليس ببعيد. هي صاحبة المسجد التي أمرت ببنائه على أرض وهبها إياها السلطان المملوكي الناصر محمد بن قلاوون لاستزراعها وتعميرها، فقد كانت مرضعته التي اهتمت به منذ الصغر وكان لها دور كبير في توليه الحكم بعد موت أبيه. هي "مرضعة قلاوون" التي لازلنا نذكرها في حديثنا للدلالة على سيدة عجوز داهية تتحكم في الأمور من حولها لتسييرها كيفما ترى وتشاء. لم يعد المقام المخصص لها ملحقاً بالجامع مثلما كان في السابق وحتى أعمال الترميم التي انتهت سنة 2009، فقد ظل المسجد مغلقاً منذ سبعينات القرن الفائت بسبب المياه الجوفية، وحين أعيد افتتاحه اختفى المقام المشغول بالنحاس والمنقوش عليه أسماء الله الحسنى، على حد وصف أحد من نشأوا في الحي وظل لسنوات طوال يجاور المقام الذي كانت تفوح منه رائحة المسك، إذ يقال إن هذه الجارية المغولية الأصل كانت سيدة كريمة وبارة بالفقراء، تعطر أموال الزكاة والصدقات بالمسك، حتى أطلق عليها المصريون "الست مسكة"، بينما اسمها الحقيقي هو "حدق"، وفي رواية أخرى "جلشانة" أي "مثل الورد" باللغة الفارسية.
***
تتعدد الأسماء والروايات، لكن بحسب المقريزي جاءت "حدق" أو "الست مسكة" إلى مصر مع زوجة السلطان منصور بن قلاوون الثانية بعد توليه الحكم بسنتين، وكانت هذه الأخيرة أميرة مغولية قدمت مع والدها الذي استقر في القاهرة هربا من غضب سلطان المغول عليه وأحضر معه جميع أفراد أسرته وأقاربه ومن بينهم "حدق" الفتاة فائقة الجمال التي في مثل عمر ابنته "أشلون خوندا".
وحين رزقت السلطانة بولد عهدت بتربيته لقريبتها "حدق" التي تثق بها، وقد كانت بالفعل على قدر الثقة ومشهودا لها بالحنكة والذكاء لدرجة أنها نجحت أن تأخذ البيعة من الأمراء للناصر محمد بن قلاوون بعد وفاة أبيه، وصار سلطانا على مصر وهو في التاسعة من عمره بفضلها. نستطيع أن نتخيل المنزلة التي كانت تحظى بها إذاً الست مسكة "مرضعة قلاوون"، فعلى امتداد العصر المملوكي تولى سبعة عشر طفلاً حكم مصر، منهم ستة تقل أعمارهم عن العاشرة، والباقي "تحت 16 سنة"، كما يذكر صلاح عيسى في كتابه "هوامش المقريزي، حكايات من مصر" متحدثاً عن "حكم العيال لما يزيد على نصف قرن"، وبالتالي كان هنالك دوما من يديرون البلاد من خلف الستار، وبالطبع قد نكتشف هنا أدوار نساء لا نعرف عنهن الكثير.
يشير صلاح عيسى مثلا إلى واقعة تنصيب الملك المظفر أحمد الذي تولى الحكم وعمره عشرون شهراً، وحين بدأ الأمراء يقدمون له فروض الولاء بكى لأن مرضعته لم تكن معه، فاستدعوها وأخذته في حجرها والأمراء ينحنون بين يديها يبايعون الملك الطفل بالسلطنة!
***
عهدنا مثل هذه المشاهد العبثية على مر العصور، فكما تقول الأغنية الشعبية "يا ما دقت على الراس طبول"، الست مسكة مثلا بكل قوتها التي مكنتها قديما من استرجاع السلطنة للناصر محمد بن قلاوون بعد خلعه من الحكم ثلاث مرات، أزاح قبرها منذ سنوات قليلة أحد السلفيين الذي لم تعجبه فكرة وجود ضريح لها داخل المسجد، فعل ما بوسعه للتخلص منه وتلاقت رغبته مع مصلحة آخرين استفادوا غالبا من اختفاء المقام... أما السكان الذين شبوا في الحي واعتادوا رائحة المسك الفواحة فقد اعتادوا أن يروا الأشياء تختفي من حولهم واكتفوا بالذكرى والحكايات المتوارثة عن سيدة عاشت طويلا بينهم واحتفلوا بها حتى وهم يعرفون أن قبرها ربما كان خاويا وأنها قد تكون ماتت في السجن وهي تلازم السلطان في أواخر أيامه، تعتني به وتخدمه، إلى أن توفاهما الله في محبسهما.
هم يعرفون أيضا أن لها بعض الفضل في تعمير حي السيدة زينب بأموالها وسطوتها، وأن الفصوص الذهبية التي كانت تزين بعض الحشوات قد سُرقت، والنافورة التي كانت تتوسط المسجد اختفت مع النخلتين العاليتين اللتين كانوا يناموا في ظلهما.
السيرة تبقى.. وتبقى أيضا كلمات نستخدمها في حياتنا اليومية ولا نعرف أصلها وفصلها. نشير إلى "مرضعة قلاوون" ونحن نجهل دور الست مِسكة، كهرمانة القصر، ونطلق على امرأة عجوز داهية، أحيانا سيئة الخلق، وصف "الحيزبون" ونظن أنها كلمة عامية دارجة في حين هي كلمة فصيحة، ولا نربط بين "مرضعة قلاوون" و"الحيزبون" وكيف صار لهما تقريبا المعنى نفسه بسبب كبر سن الست مسكة ودهائها، كما قد نصف سيدة بأنها "مدام دَرْدَبيس" على سبيل الدعابة، دون أن نعلم أيضا أنها كلمة عربية فصيحة معناها "عجوز هرمة داهية"، وهي تستخدم للمؤنث والمذكر... كلمات تحاول أن تصف دهاء امرأة وسطوتها.