توقيت القاهرة المحلي 11:36:35 آخر تحديث
  مصر اليوم -

مرضعة قلاوون كانت حيزبونا

  مصر اليوم -

مرضعة قلاوون كانت حيزبونا

بقلم : داليا شمس

من شارع إلى زقاق، تقودك قدماك إلى سكة سوق مِسكة بالسيدة زينب، حيث يوجد مسجد قديم من القرن الرابع عشر الميلادي، وسط منازل لا شيء يميزها. يعرف السكان طريقهم إلى الست مِسكة التي كانوا يحتفلون بمولدها كل عام في الثالث والعشرين من شهر شعبان، إلى وقت ليس ببعيد. هي صاحبة المسجد التي أمرت ببنائه على أرض وهبها إياها السلطان المملوكي الناصر محمد بن قلاوون لاستزراعها وتعميرها، فقد كانت مرضعته التي اهتمت به منذ الصغر وكان لها دور كبير في توليه الحكم بعد موت أبيه. هي "مرضعة قلاوون" التي لازلنا نذكرها في حديثنا للدلالة على سيدة عجوز داهية تتحكم في الأمور من حولها لتسييرها كيفما ترى وتشاء. لم يعد المقام المخصص لها ملحقاً بالجامع مثلما كان في السابق وحتى أعمال الترميم التي انتهت سنة 2009، فقد ظل المسجد مغلقاً منذ سبعينات القرن الفائت بسبب المياه الجوفية، وحين أعيد افتتاحه اختفى المقام المشغول بالنحاس والمنقوش عليه أسماء الله الحسنى، على حد وصف أحد من نشأوا في الحي وظل لسنوات طوال يجاور المقام الذي كانت تفوح منه رائحة المسك، إذ يقال إن هذه الجارية المغولية الأصل كانت سيدة كريمة وبارة بالفقراء، تعطر أموال الزكاة والصدقات بالمسك، حتى أطلق عليها المصريون "الست مسكة"، بينما اسمها الحقيقي هو "حدق"، وفي رواية أخرى "جلشانة" أي "مثل الورد" باللغة الفارسية.
***
تتعدد الأسماء والروايات، لكن بحسب المقريزي جاءت "حدق" أو "الست مسكة" إلى مصر مع زوجة السلطان منصور بن قلاوون الثانية بعد توليه الحكم بسنتين، وكانت هذه الأخيرة أميرة مغولية قدمت مع والدها الذي استقر في القاهرة هربا من غضب سلطان المغول عليه وأحضر معه جميع أفراد أسرته وأقاربه ومن بينهم "حدق" الفتاة فائقة الجمال التي في مثل عمر ابنته "أشلون خوندا".

وحين رزقت السلطانة بولد عهدت بتربيته لقريبتها "حدق" التي تثق بها، وقد كانت بالفعل على قدر الثقة ومشهودا لها بالحنكة والذكاء لدرجة أنها نجحت أن تأخذ البيعة من الأمراء للناصر محمد بن قلاوون بعد وفاة أبيه، وصار سلطانا على مصر وهو في التاسعة من عمره بفضلها. نستطيع أن نتخيل المنزلة التي كانت تحظى بها إذاً الست مسكة "مرضعة قلاوون"، فعلى امتداد العصر المملوكي تولى سبعة عشر طفلاً حكم مصر، منهم ستة تقل أعمارهم عن العاشرة، والباقي "تحت 16 سنة"، كما يذكر صلاح عيسى في كتابه "هوامش المقريزي، حكايات من مصر" متحدثاً عن "حكم العيال لما يزيد على نصف قرن"، وبالتالي كان هنالك دوما من يديرون البلاد من خلف الستار، وبالطبع قد نكتشف هنا أدوار نساء لا نعرف عنهن الكثير.
يشير صلاح عيسى مثلا إلى واقعة تنصيب الملك المظفر أحمد الذي تولى الحكم وعمره عشرون شهراً، وحين بدأ الأمراء يقدمون له فروض الولاء بكى لأن مرضعته لم تكن معه، فاستدعوها وأخذته في حجرها والأمراء ينحنون بين يديها يبايعون الملك الطفل بالسلطنة!
***
عهدنا مثل هذه المشاهد العبثية على مر العصور، فكما تقول الأغنية الشعبية "يا ما دقت على الراس طبول"، الست مسكة مثلا بكل قوتها التي مكنتها قديما من استرجاع السلطنة للناصر محمد بن قلاوون بعد خلعه من الحكم ثلاث مرات، أزاح قبرها منذ سنوات قليلة أحد السلفيين الذي لم تعجبه فكرة وجود ضريح لها داخل المسجد، فعل ما بوسعه للتخلص منه وتلاقت رغبته مع مصلحة آخرين استفادوا غالبا من اختفاء المقام... أما السكان الذين شبوا في الحي واعتادوا رائحة المسك الفواحة فقد اعتادوا أن يروا الأشياء تختفي من حولهم واكتفوا بالذكرى والحكايات المتوارثة عن سيدة عاشت طويلا بينهم واحتفلوا بها حتى وهم يعرفون أن قبرها ربما كان خاويا وأنها قد تكون ماتت في السجن وهي تلازم السلطان في أواخر أيامه، تعتني به وتخدمه، إلى أن توفاهما الله في محبسهما.
هم يعرفون أيضا أن لها بعض الفضل في تعمير حي السيدة زينب بأموالها وسطوتها، وأن الفصوص الذهبية التي كانت تزين بعض الحشوات قد سُرقت، والنافورة التي كانت تتوسط المسجد اختفت مع النخلتين العاليتين اللتين كانوا يناموا في ظلهما.
السيرة تبقى.. وتبقى أيضا كلمات نستخدمها في حياتنا اليومية ولا نعرف أصلها وفصلها. نشير إلى "مرضعة قلاوون" ونحن نجهل دور الست مِسكة، كهرمانة القصر، ونطلق على امرأة عجوز داهية، أحيانا سيئة الخلق، وصف "الحيزبون" ونظن أنها كلمة عامية دارجة في حين هي كلمة فصيحة، ولا نربط بين "مرضعة قلاوون" و"الحيزبون" وكيف صار لهما تقريبا المعنى نفسه بسبب كبر سن الست مسكة ودهائها، كما قد نصف سيدة بأنها "مدام دَرْدَبيس" على سبيل الدعابة، دون أن نعلم أيضا أنها كلمة عربية فصيحة معناها "عجوز هرمة داهية"، وهي تستخدم للمؤنث والمذكر... كلمات تحاول أن تصف دهاء امرأة وسطوتها.

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

مرضعة قلاوون كانت حيزبونا مرضعة قلاوون كانت حيزبونا



GMT 23:29 2022 الإثنين ,12 أيلول / سبتمبر

نحو قانون متوازن للأسرة.. بيت الطاعة

GMT 23:27 2022 الإثنين ,12 أيلول / سبتمبر

نحن عشاق «الكراكيب»

GMT 23:25 2022 الإثنين ,12 أيلول / سبتمبر

التوت و«البنكنوت»

GMT 20:38 2022 الإثنين ,12 أيلول / سبتمبر

الصفقة مع ايران تأجلت... أو صارت مستحيلة

GMT 07:51 2021 السبت ,11 أيلول / سبتمبر

الملالي في أفغانستان: المخاطر والتحديات

إطلالات هند صبري مصدر إلهام للمرأة العصرية الأنيقة

القاهرة ـ مصر اليوم

GMT 17:30 2024 السبت ,23 تشرين الثاني / نوفمبر

ميرهان حسين تكشف مفاجأة عن أعمالها المقبلة
  مصر اليوم - ميرهان حسين تكشف مفاجأة عن أعمالها المقبلة

GMT 10:52 2024 الأحد ,24 تشرين الثاني / نوفمبر

انطلاق الدورة الثانية من مهرجان الشارقة للسيارات القديمة
  مصر اليوم - انطلاق الدورة الثانية من مهرجان الشارقة للسيارات القديمة

GMT 10:38 2024 الأحد ,24 تشرين الثاني / نوفمبر

واتساب يتيح تحويل الرسائل الصوتية إلى نصوص تشمل العربية
  مصر اليوم - واتساب يتيح تحويل الرسائل الصوتية إلى نصوص تشمل العربية

GMT 01:58 2021 الأربعاء ,01 أيلول / سبتمبر

البورصة المصرية تربح 31.4 مليار جنيه خلال شهر أغسطس

GMT 23:21 2020 الأربعاء ,26 آب / أغسطس

بورصة بيروت تغلق على تحسّن بنسبة 0.37%

GMT 13:08 2020 الإثنين ,24 شباط / فبراير

7 قواعد للسعادة على طريقة زينة تعرف عليهم

GMT 01:27 2018 الإثنين ,26 شباط / فبراير

باحثون يؤكدون تقلص عيون العناكب الذكور بنسبة 25%

GMT 15:46 2018 الأربعاء ,07 شباط / فبراير

كارل هاينز رومينيجه يشيد بسياسة هاينكس

GMT 12:17 2018 الجمعة ,02 شباط / فبراير

Mikyajy تطلق أحمر شفاه لعاشقات الموضة والتفرد

GMT 16:48 2018 الخميس ,25 كانون الثاني / يناير

المقاصة يسعى لاستعادة الانتصارات أمام الانتاج

GMT 14:39 2018 الإثنين ,22 كانون الثاني / يناير

"ثقافة أبوقرقاص" تنظم فعاليات في قرية الكرم وقصر الإبداع
 
Egypt-today

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

egypttoday egypttoday egypttoday egypttoday
Egypttoday Egypttoday Egypttoday
Egypttoday
بناية النخيل - رأس النبع _ خلف السفارة الفرنسية _بيروت - لبنان
Egypt, Lebanan, Lebanon