بقلم : داليا شمس
عجيب أمر بنى آدم والفيروس. صارت أبسط العادات مثل الذهاب إلى السينما ضربا من ضروب الخيال أو عملا استثنائيا. تود أن تنتصر على خوفك لكى تدخل إلى قاعات العرض المظلمة ضمن آخرين وأن تنسى حياتك وتفكر فى هؤلاء الذين يتحركون على الشاشة المضيئة لمدة ساعة أو ساعتين. لا تشعر فقط بمتعة الهروب إلى الشاشة كما قبل، لكن هناك أيضا أحاسيس مختلطة. أنت تدلف إلى القاعة محصنا بقناع طبى بعد أن مسحت يديك بالكحول. تجلس على الكرسى بحيطة وحذر، لا تعرف من لمسه قبلك، وإذا أصابت الجارة نوبة مباغتة من السعال، تلمح نفسك تنظر لها شَزْرًا بشكل تلقائى وكأنها ارتكبت الجرم الأعظم.
هذا لا يمنع نوبة السحر التى تلازم طقس السينما المبهج، بعد أشهر من الغياب وحظر التجوال. اشتقنا إلى الخروج من المنزل والاستعداد طول الطريق لاكتشاف عالم مختلف والوقوف فى الطابور لشراء تذكرة، ثم البحث عن الكرسى بمساعدة من يأتى مهرولا لكى ينير لك الطريق بإشارات متقطعة، وما إن تغوص فى مقعدك حتى تستعد لتبدأ رحلة قصيرة... تتلذذ أكثر فى أيام ندر فيها السفر، فنحن بحاجة إلى الانتقال لعوالم أخرى.
***
قضينا أشهرا نتابع فيها الأفلام على شاشات الكمبيوتر والتليفون من خلال التطبيقات المختلفة والمنصات الإلكترونية. وأيقن بعض المتخصصين أن التغيير حدث بسرعة وأن أنماط استهلاك الثقافة تبدلت فى وقت قليل، وكان ذلك متوقعا لكن خلال سنوات. حدث ما حدث وظل بعضنا يشتاق إلى قاعات السينما، يرغب فى أن يكون طرفا فى طقس تشاركى، أن يأكل حبات «الفشار» ويناقش الأحداث والأفكار بعد العرض مع الأصدقاء وهم فى طريقهم إلى المنزل أو وهم يستمتعون بشراب وأطباق خفيفة فى مطعم مجاور. لم نعرف قيمة كل هذه العادات والتفاصيل البسيطة إلا عندما حرمنا منها، كالعديد من الأشياء الأخرى التى كنا نعتبرها عادية ثم صرنا نعرف أهميتها.
الأفلام صُنعت لكى يتم مشاهدتها على شاشات كبيرة، فيظهر وجه الممثلة ملء القاعة، وحين تضحك أو تبكى نتفاعل معها... ثم حين تدور معركة نسمع قعقعة السلاح، كما لو كنا هناك. نغوص فى العمل بطريقة مختلفة تماما عن لو كنا نمدد أجسادنا على السرير أو الكنبة فى البيت. حالة الاسترخاء ليست ذاتها، ولا عملية الاستقبال. أن يجلس زوجان ليتابعا فيلما على شاشة الكمبيوتر شىء لطيف بالطبع، لكنه يختلف عن موعدهما الغرامى الأول وهو ينتظرها على باب السينما ويختلس النظر إلى وجهها فرحا خلال العرض. يكفى أن يضحك شخص أو ثلاثة داخل القاعة حتى ينفجر الجميع ضحكا، وهو ما نفتقده حين صارت دور السينما خاوية من جراء الكورونا.
***
انخفض الإنتاج السينمائى خلال السنة، وشح الجمهور. أصبح الناس يفضلون الفرجة المنزلية لإيثار السلامة، وهم يفعلون الشىء نفسه حين يطلبون توصيل الوجبات الجاهزة إلى المنازل بدلا من التوجه إلى المطاعم ومخالطة آخرين، فللضرورة أحكام. فى حين نحن بحاجة إلى هذا الوقت المستقطع الذى نخلو فيه إلى أنفسنا ونبتعد عن الروتين اليومى لنحملق فى الشاشة ونلوذ بالسينما، نحن بحاجة لفتح قوسين مع بداية ونهاية الفيلم نعيش ما بينهما داخل الأحداث، لكى نستمر فى تحمل الضغوط، وهو ما يحدث أيضا حين نطبخ وجبة شهية ونأكلها باستمتاع أو حين نذهب إلى حفل موسيقى بدلا من الاستماع إلى أسطوانة مدمجة أو يوتيوب... السينما والطبخ وقت مستقطع من أجلنا، هما فى مكان ما انتصارات صغيرة لكسر الروتين ومحاولة العودة إلى حياة شبه طبيعية، بما أن أمر «الكوفيد» سيطول، لكن بالطبع يجب توخى الحيطة والحذر.