بقلم : داليا شمس
جاء الخبر كالتالى يوم الأربعاء الماضى: رحل عن عالمنا رئيس وزراء البحرين، الأمير خليفة بن سلمان آل خليفة عن عمر يناهز 85 عاما، فى مستشفى مايو كلينك بالولايات المتحدة الأمريكية، وكان رئيس الحكومة الأول والوحيد منذ الاستقلال عن بريطانيا سنة 1971 وتأسيس البحرين كدولة ثم كمملكة دستورية، إذ بلغت مدة شغله للمنصب 50 عاما و296 يوما، ليكون صاحب أطول فترة رئاسة حكومة فى العالم عبر التاريخ.
انتهى الخبر الذى تبعته بطبيعة الحال تعقيبات وتحليلات حول دور الشيخ خليفة الذى ظل للنهاية شخصية محورية فى الحياة السياسية بالبحرين وحليفا قويا للسعودية والولايات المتحدة الأمريكية التى تحظى بقاعدة بحرية للأسطول الخامس فى بلاده منذ 1958، كما كان على اتصال برئيس الموساد من مشفاه الأمريكى فى أغسطس الماضى بهدف التمهيد للتطبيع وإقامة علاقات دبلوماسية مع تل أبيب، وفقا لما ذكرته جريدة «تايمز أوف إسرائيل» الصيف الماضى.
توقفت طويلا أمام الخبر وأمام هذه الشخصية المهيمنة التى توفيت فى نفس شهر ميلادها ودخلت إلى كواليس الحكم منذ نعومة أظافرها، فلقد كان الابن الثانى لحاكم البحرين ــ الشيخ سلمان بن حمد آل خليفة ــ وأخو ولى العهد، ولم يكد يبلغ السابعة من عمره حتى أصدر والده أوامر بأن ينتظم مع أخيه فى حضور مجلسه. تلقى تعليمه الأولى على يد مجموعة من أفضل الأساتذة قبل أن يلتحق بإحدى المدارس التابعة للحكومة، ومن بعدها أرسله والده لبريطانيا لاستكمال تعليمه على فترات متقطعة ما بين 1957 و1959.
ينتمى لجيل أوشك على الانتهاء، عاصر ما عاصره من أحداث، بما أن البحرين امتلكت أقدم صناعة نفط فى منطقة الخليج، منذ عام 1932، وحتى حين تقلصت ثرواتها النفطية احتفظت بمكانة عسكرية استراتيجية بسبب وجود قاعدة أمريكية فيها كان لها دور هام فى الحرب مع العراق وأفغانستان على سبيل المثال لا الحصر، هذا بالإضافة إلى العلاقات الدقيقة التى تربط البحرين بالمملكة السعودية، بما أن أسرة آل خليفة التى تحكم البلاد منذ عام 1783 ترجع أصولها إلى جنوب نجد وانتقلت إلى ساحل الخليج العربى فى النصف الثانى من القرن السابع عشر.
***
الأمير الراحل يعد شخصية درامية ثرية بامتياز، بكل تناقضاتها وتعقيداتها. يحب التاريخ والرسم والتصوير الفوتوغرافى، قارئ مطلع يعتز بصداقة الكتب كما وصفوه، يهوى رياضة المشى والاستمتاع بالطبيعة ويهتم بالطيور وزراعة البساتين. حاصل على أكثر من دكتوراه فخرية من جامعات فى ماليزيا والهند، وحاز على جائزة السلام من الاتحاد الدولى للسلام عام 2017، وفى الوقت نفسه كان من أكثر الشخصيات عنفا ضد أى حركات اجتماعية تطالب بحقوق الشيعة الذين يشكلون أغلبية السكان، ووقف بشدة ضد ما سمى ثورات الربيع العربى وهاجمها بوضوح معربا عن رأيه أنها لم تأت سوى بالفوضى والخراب ولم تسع سوى للانقسام والفرقة. وكان الأشد بأسا فى مجابهة الانتفاضة التى اندلعت فى بلاده عام 2011، خاصة من خلال قوات الشرطة الخاضعة لسيطرته، ونجح بالفعل فى قمعها، وفشلت كل محاولات إقصائه رغم احتجاجات المتظاهرين الذين طالبوا بإقالته هو ووزراء الدفاع والداخلية والديوان الملكى بسبب ملاحقتهم للمعارضين.
ولم تهدأ الأمور نوعا ما سوى بتدخل ولى العهد الحالى، الأمير سلمان بن حمد آل خليفة، بأمر من والده، لكى يفتح الحوار مع المعارضة لإخلاء الشوارع من المحتجين ويؤكد أن الأحزاب السياسية تستحق أن يكون لها صوت على الطاولة. كان تباين المواقف بين الملك وولى عهده من ناحية والعم رئيس الوزراء المخضرم تظهر على السطح بين الحين والحين، لكن ظل هذا الأخير يمثل صقرا من صقور الاستقرار الذى تزين صوره معاقل السنة فى البحرين، تتنامى ثروته ومساحات الأراضى الكبيرة التى يمتلكها.
***
أندهش من قدرة الشخص على البقاء فى منصبه لخمسين عاما متواصلة، فهناك بشر عاديون يكلون ويملون من وجودهم فى الوظيفة نفسها لسنوات طويلة. نرى من حولنا أفرادا يمتلكون قدرات وطاقات تؤهلهم لبلوغ المزيد، لكنهم يقررون أحيانا التوقف عن كل شيء فى مرحلة من حياتهم بدافع التغيير أو ببساطة عدم الرغبة فى الاستمرار. يصلون إلى درجة من الإنهاك والاستنزاف أو «الاحتراق النفسى» التى تجعلهم يحولون مسارهم، وغالبا ما يتزامن ذلك مع منتصف العمر. يفعل المرء كل ما يفعل لفترة ثم بعد مرحلة عمرية معينة قد يعيد ترتيب أوراقه، لكن واضح أن الأمر يختلف تماما حين يتعلق بالسلطة التى تدخلنا إلى حيز الإدمان. تأثير النفوذ على المخ، كما أثبتت أبحاث علماء من جامعة لندن البريطانية، يماثل تعاطى الكوكايين على مخ الإنسان، فهو يضاعف معدل إفراز هرمون التستيرون وبالتالى زيادة مستوى مادة الدوبامين فى الجسم التى تصاحب عادة شعور الإنسان بالمكافأة والرضا والثقة بالنفس. يدمن الشخص الصراعات وزهوة الانتصار ويكون ذلك غالبا مصحوبا بخيالات محببة للإنسان وبنوع من جنون العظمة، وعندما يزداد معدل الدوبامين بصورة أكبر يتسبب فى القلق والعجرفة ونفاد الصبر.
الولع النرجسى بالسلطة جعلنا نعاصر حكامًا مثل معمر القذافى الذى ظل يحكم ليبيا 42 عاما وبول بيا رئيسا للكاميرون منذ 38 عاما وجوزيه إداوردو دى سانتوس رئيس أنجولا السابق الذى حكم لمدة 38 عاما، وغيرهم كثر فى بلادنا العربية والأفريقية. لا تنطبق على كل هؤلاء قواعد العمل الطبيعية ودورات المشوار الوظيفى التى صارت متقطعة ويشوبها عدم الاستمرار، وذلك بخلاف ما كان سائدا فى فترات سابقة وحتى سبعينيات القرن الماضى. فى السنوات الأخيرة، أصبح الناس يغيرون وظائفهم، خاصة فى مجالات معينة مثل التكنولوجيا والمعلومات بصورة أسرع، ولم يعد الثبات هو سمة العصر بشكل عام، سواء فى العمل أم فى العلاقات، إلا أنه فى حالة الحكم والسلطة من الواضح تماما أن الأمر يختلف.