بقلم : داليا شمس
«شاب جديد» يسخر من كل شيء ويحطم الأصنام من خلال أغنيات الراب التى يكتبها ويؤديها، معبرا عن أبناء جيله من الفلسطينيين الذين لم يعرفوا الحرب والانتفاضة والاجتياح.. لم يعرفوا سوى الاحتلال الذى كان دوما جزءا من حياتهم اليومية منذ أن خلقوا. يقول فى إحدى أغنياته «لا شفنا نكبة ولا تل الزعتر»، وقد ملَّ وهو حاليا فى منتصف العشرينيات أن يطرح عليه الإعلام، خاصة الغربى، السؤال نفسه مرارا وتكرارا: «كيف تكون الحياة تحت وطأة الاحتلال؟»، فيوضح تلقائيا أنه لم ير غيرها، وتكون إجابته لاذعة وتهكمية كالعادة، تحمل الكثير من العدمية الفلسطينية الصرفة مثله مثل كل من كفر بالسياسة والسلطة والأيديولوجيا، وسأم من أن يُختصر فى ثقافة المقاومة وعلامة النصر وصور القدس العتيقة. يفهم شاب جديد، وهو اسمه الفنى الذى اشتهر به منذ أن انضم لحوالى ستة من فنانى الراب فى رام الله عام 2016 وبالتالى صار هو الشاب الجديد الذى انتمى إليهم، يفهم جيدا أنه من السهل تحقيق النجاح بتسويق حاله بوصفه الفلسطينى الذى يلبس الكوفية، ويحكى عن معاناته التاريخية، لكنه اختار طريقا مغايرا، بعيدا عن الهتافات والمظلومية وكل هؤلاء المثقفين المنتمين لتيارات مختلفة من هواة التنظير والتربح من القضية أحيانا.
***
يظهر على المسرح أو فى تسجيلات أغنياته مرتديا ملابس رياضية مريحة وعلى رأسه طاقية تحمل علامة ماركة تجارية شهيرة. يسأله البعض عن الحكمة من كذا أو كذا، فيأتى رده سريعا: «مفيش أى حكمة من هذا الموضوع»، ويشرح فى أحاديث صحفية أنه مثل الماكينة أو الطابعة التى تُدخل عليها معلومات ومعطيات معينة فتخرج النتيجة على شكل أغانٍ من قاموس الناس الغلابة، الذى لا يخلو بالطبع من شتائم ومفردات «قبيحة» من الصعب إدراجها فى المقال، وإلا سيكون مثل ترجمات أنيس عبيد لبعض الأفلام الأجنبية المليئة بـ«تبا واللعنة!».
يسرد الحياة اليومية ببساطة ويعيد تدوير ما يقوله الناس فى الشارع، خاصة من يطلق عليهم البعض «زُعران الحارة» أو «جماعة الورد» أو «الدود» كما يسميهم، هؤلاء الذين لم يكملوا دراستهم الجامعية مثله أو من يجلسون بالصفوف الأخيرة فى المدرسة ولديهم القدرة على الحديث لساعات عن عجل السيارة، ويتحايلون يوميا لاجتياز المعابر الإسرائيلية فى أسرع وقت ممكن. مثله مثلهم لم يعد يعبأ بأى شيء ويرفض معايير العالم وحتى الراب، يخلط الراب المغاربى بالمصرى ويضحك على الأمريكان ويفعل ما يحلو له أو ما يبدو مناسبا.
يسكن شاب جديد فى كفر عقب، وقبلها تنقل بين وسط القدس والداخل والضفة الغربية. يصف نفسه فى أغنية «متكتك: «لا أنا فالح جامعة ولا عمرى كاتب سمينار، باب الدار فى جدار»، وهى حقيقة منطقة كفر عقب حيث يعيش، فهو من الأحياء التى وقعت بعد بناء الجدار الفاصل فى أواخر الانتفاضة الثانية على الجهة الفلسطينية التى تديرها السلطة، إلا أنها بقيت تابعة لبلدية الاحتلال فى القدس، وبالتالى هى فعليا مساحة جغرافية عشوائية لا يحكمها أحد، على هامش القدس، وعلى هامش رام الله والبيرة، أى أنه ممن احترفوا العيش على الهامش، ويتكلم بلسان حالهم حين يكتب أغنياته فى استوديو صديق له ما بين السادسة مساءً والسادسة صباحا. يطلب من «الملحن» أن يجد إيقاعا ملائما لحالته النفسية ومزاجه وقتها، وحين يحدث ذلك يجلس منفردا وينظم الكلمات بانسياب ومهارة عن أشخاص أو أشياء يكرهها، عن واقعة بعينها أثارته، وأحيانا عن حرب وهمية وقعت فى حى عادةً لا يحدث فيه أى شيء ولا ينتبه إليه أحد.
***
يروى قصة من قصص حياته اليومية فى أغنية «كحل وعتمة»، شاب يخرج إلى شغله والدنيا عتمة وتودعه أمه قبل أن يشق طريقه إلى حاجز قلنديا الذى أقامه الجيش الإسرائيلى ليفصل شمال الضفة الغربية عن القدس، ألم يكن ذلك هو روتينه اليومى عند عمله فى أحد الفنادق؟ ألم يكن يخشى هو الآخر مثل بطل الأغنية أن يضع يديه فى جيوبه فيشك الجندى على المعبر أنه يحمل سكينا؟ وعلى هذا النحو يستمر شاب جديد فى كتابة الواقع السياسى من خلال تجاربه الشخصية وليس كما يرد فى نشرات الأخبار، يقول: «شو إللى صار مع كفاح، ريحتو فاح، مات كفاح». قابل ناس «كتير كتار»، كما يذكرنا عنوان إحدى أغنياته بسبب تنقله بين الوظائف والمناطق، يتكلم العربية والإنجليزية والقليل من العبرية والروسية، ولا ينظر إلى نفسه بشكل شديد الجدية، فهو يعلم أن لديه فرصة حاليا ليقول كلمته، لكنه لن يظل مغنى راب حتى سن الأربعين، بل سيكون لزاما عليه أن يجد شيئا آخر يعمله. وقبل أن يغادر الساحة الفنية هو وزملاؤه فقد أرادوا أن يتركوا بصمتهم بشكل منظم، فأسسوا شركة «بلاتنم» للإنتاج لكى يساعدوا فنانى راب وهيب هوب آخرين على الاستمرارية وكسب عيشهم، فهذا النوع من الموسيقى ليس بجديد على فلسطين والعالم العربى، كان هناك دوما ومنذ ثمانينيات القرن الماضى أسماء تظهر وتختفى، بعضهم ربما أكثر كلاسيكية أو التزاما بموضوعات سياسية مباشرة، لكن بدأ تسليط الضوء على مثل هذه الأغنيات الناقدة منذ عام 2011 مع بدايات «الربيع العربى». وصلنا صوت شاب جديد ورفاقه حاملين تفاصيل أخرى عن رام الله وغيرها من المدن والأماكن بطريقة لم نعتدها، وهم يتعاونون مع موسيقيين ومغنين آخرين من فنانى الراب فى العالم العربى؛ لكى يعبروا عن الكثير من المسكوت عنه بلغتهم الخاصة، لغة «جماعة الورد».