بقلم : داليا شمس
أرتجف كأوراق الشجر كلما لامس الهواء أغصانها. أتفهم أن الأشجار بحاجة إلى الريح لكى تخلصها من أوراقها الميتة، لكنها قد تطيح بزهرات البرتقال الصغيرة البيضاء التى انتظرتها منذ سنتين على الأقل، حين اشتريت هذه النبتة من معرض الربيع. وأخيرا أزهرت، بعد أن كدت أفقد الأمل، وتغلغلت رائحتها فى الهواء، قيل لى إنها ربما عفية أكثر من اللازم وتحتاج إلى وقت أطول لكى تنضج وتهدأ وتجد توازنا طبيعيا وتزهر، ومن بعدها تثمر، فكل الأشجار تحلم بالفاكهة. وبالفعل، الوقت كفيل بكل شيء.
أقترب من الشجرة أكثر فأميز أحد مكونات عطرى المفضل. يا ترى كم زهرة يحتاجون لكى يصنعوا العطر وماء الزهر؟ عملية التقطير التى اخترعها العرب بعد أن أدخلوا زراعة البرتقال والنارنج إلى الأندلس، وجلبوا أصناف الموالح من آسيا، تحتاج أيضا إلى صبر كبير. يتم قطف الزهر بلطف وفرده على البساط ليلا، وفى الصباح يبدأ التقطير: لكل طن من الزهر، نضع طنا من المياه ونتركها تغلى لأربع أو خمس ساعات، ونستخرج ماء الزهر من بخار الماء المتصاعد، أما الزيت الأساسى فيستخدم فى صنع العطور التى تساعد على الإحساس بالفرح وتخفيف الاكتئاب والنوم الهادئ. وعادةً يكون زهر النارنج أكبر حجما ورائحته فواحة، ألف كيلو جرام من الزهر للحصول على لتر واحد من الزيت العطرى المركز الذى يطلق عليه «نيرولى» على اسم أميرة إيطالية دأبت على استخدامه فى القرن السابع عشر الميلادى، بعدما انتشر فى أوروبا من خلال الأندلس.
***
حلم العرب بتحويل هذه الأخيرة إلى مركز عالمى لصناعة العطور وكانوا يتفاءلون بوجود أشجار الموالح فى باحة البيت، فقد صارت ثمرة البرتقال الحلو والمر رمزا لعالم جديد قائم على امتزاج الثقافات والأعراق. وحتى بعد سقوط مملكة غرناطة بحوالى قرن من الزمان ارتبطت شجرة البرتقال ببيوت الوجهاء والملوك فى أوروبا، وكأنها تحولت إلى شجرة الحكم مثلما حدث مع ملك فرنسا لويس الرابع عشر الذى خصص لها غرفة زجاجية ضخمة، ملحقة بقصر فرساى، لتدفئة النبات وحمايته من التقلبات الجوية.
أنظر إلى شجرتى الصغيرة على الشرفة، بعد أن سرحت بخيالى بعيدا، وأتمنى أن تصبح بعد فترة مثقلة بالثمار الصفر الناضجة، وأحلم أن تكبر حتى تلمس أغصانها وجه السماء. أتخيل نفسى أعيش فى بيت وسط بستان، فإذا بى أستيقظ من أحلامى على صوت فأس وهى تهوى برتابة على جذع شجرة أسفل منزلى. معتوه، متوحش، غاضب، ضايقته الشجرة وخضارها فصمم على الخلاص منها، ودفع بمعتوه آخر لكى يضرب بحقد جذع الشجرة وأغصانها.
جبهة الفأس صارت بالنسبة لى ملطخة بدماء الأشجار، والأوراق مبعثرة على الأرض، والصرخات بالشارع كأنها بكاء الشجرة التى ستهلك بعد قليل. لا أعرف ما الذى دهى هذه المدينة وجرى للناس فيها؟! ففى كل حى هناك مذبحة للأشجار، كافور، بونسيانا، وغيرهما من الأنواع. أشجار صادقت سكان الأحياء منذ طفولتهم وصباهم، بل غالباً سبق وجودها وجودهم بكثير. تزداد جمالاً أحياناً ويبدو اخضرارها مبهجاً، ثم فجأة ينهى حياتها فأس المعاتيه غير آبهٍ بتوسلات المحيطين وصيحاتهم.
***
نشعر أننا مع الوقت نفقد حياتنا السابقة وطفولتنا شيئاً فشيئاً، وأنه مع الوقت لن تعرف الأجيال الأصغر سناً معنى كلمة «أزهار»، فهم لم يكبروا على رائحتها الفواحة التى تتسلل إلى غرف نومهم، بل عاشوا فى مدينة أخرى. مدينة تتحول إلى غابة واسعة مزروعة بالأسمنت والألوان الرمادية والبنية.. مدينة تستحق الرثاء كما تستحقه الأشجار، فنحن لا نملك من الصبر والكياسة ما يسمح للشجر أن يعيش ويثمر، لا نترك فرصة لزهر البرتقال أو غيره.