توقيت القاهرة المحلي 13:28:44 آخر تحديث
  مصر اليوم -

زهر البرتقال أو أبعد

  مصر اليوم -

زهر البرتقال أو أبعد

بقلم : داليا شمس

أرتجف كأوراق الشجر كلما لامس الهواء أغصانها. أتفهم أن الأشجار بحاجة إلى الريح لكى تخلصها من أوراقها الميتة، لكنها قد تطيح بزهرات البرتقال الصغيرة البيضاء التى انتظرتها منذ سنتين على الأقل، حين اشتريت هذه النبتة من معرض الربيع. وأخيرا أزهرت، بعد أن كدت أفقد الأمل، وتغلغلت رائحتها فى الهواء، قيل لى إنها ربما عفية أكثر من اللازم وتحتاج إلى وقت أطول لكى تنضج وتهدأ وتجد توازنا طبيعيا وتزهر، ومن بعدها تثمر، فكل الأشجار تحلم بالفاكهة. وبالفعل، الوقت كفيل بكل شيء.
أقترب من الشجرة أكثر فأميز أحد مكونات عطرى المفضل. يا ترى كم زهرة يحتاجون لكى يصنعوا العطر وماء الزهر؟ عملية التقطير التى اخترعها العرب بعد أن أدخلوا زراعة البرتقال والنارنج إلى الأندلس، وجلبوا أصناف الموالح من آسيا، تحتاج أيضا إلى صبر كبير. يتم قطف الزهر بلطف وفرده على البساط ليلا، وفى الصباح يبدأ التقطير: لكل طن من الزهر، نضع طنا من المياه ونتركها تغلى لأربع أو خمس ساعات، ونستخرج ماء الزهر من بخار الماء المتصاعد، أما الزيت الأساسى فيستخدم فى صنع العطور التى تساعد على الإحساس بالفرح وتخفيف الاكتئاب والنوم الهادئ. وعادةً يكون زهر النارنج أكبر حجما ورائحته فواحة، ألف كيلو جرام من الزهر للحصول على لتر واحد من الزيت العطرى المركز الذى يطلق عليه «نيرولى» على اسم أميرة إيطالية دأبت على استخدامه فى القرن السابع عشر الميلادى، بعدما انتشر فى أوروبا من خلال الأندلس.
***
حلم العرب بتحويل هذه الأخيرة إلى مركز عالمى لصناعة العطور وكانوا يتفاءلون بوجود أشجار الموالح فى باحة البيت، فقد صارت ثمرة البرتقال الحلو والمر رمزا لعالم جديد قائم على امتزاج الثقافات والأعراق. وحتى بعد سقوط مملكة غرناطة بحوالى قرن من الزمان ارتبطت شجرة البرتقال ببيوت الوجهاء والملوك فى أوروبا، وكأنها تحولت إلى شجرة الحكم مثلما حدث مع ملك فرنسا لويس الرابع عشر الذى خصص لها غرفة زجاجية ضخمة، ملحقة بقصر فرساى، لتدفئة النبات وحمايته من التقلبات الجوية.
أنظر إلى شجرتى الصغيرة على الشرفة، بعد أن سرحت بخيالى بعيدا، وأتمنى أن تصبح بعد فترة مثقلة بالثمار الصفر الناضجة، وأحلم أن تكبر حتى تلمس أغصانها وجه السماء. أتخيل نفسى أعيش فى بيت وسط بستان، فإذا بى أستيقظ من أحلامى على صوت فأس وهى تهوى برتابة على جذع شجرة أسفل منزلى. معتوه، متوحش، غاضب، ضايقته الشجرة وخضارها فصمم على الخلاص منها، ودفع بمعتوه آخر لكى يضرب بحقد جذع الشجرة وأغصانها.
جبهة الفأس صارت بالنسبة لى ملطخة بدماء الأشجار، والأوراق مبعثرة على الأرض، والصرخات بالشارع كأنها بكاء الشجرة التى ستهلك بعد قليل. لا أعرف ما الذى دهى هذه المدينة وجرى للناس فيها؟! ففى كل حى هناك مذبحة للأشجار، كافور، بونسيانا، وغيرهما من الأنواع. أشجار صادقت سكان الأحياء منذ طفولتهم وصباهم، بل غالباً سبق وجودها وجودهم بكثير. تزداد جمالاً أحياناً ويبدو اخضرارها مبهجاً، ثم فجأة ينهى حياتها فأس المعاتيه غير آبهٍ بتوسلات المحيطين وصيحاتهم.
***
نشعر أننا مع الوقت نفقد حياتنا السابقة وطفولتنا شيئاً فشيئاً، وأنه مع الوقت لن تعرف الأجيال الأصغر سناً معنى كلمة «أزهار»، فهم لم يكبروا على رائحتها الفواحة التى تتسلل إلى غرف نومهم، بل عاشوا فى مدينة أخرى. مدينة تتحول إلى غابة واسعة مزروعة بالأسمنت والألوان الرمادية والبنية.. مدينة تستحق الرثاء كما تستحقه الأشجار، فنحن لا نملك من الصبر والكياسة ما يسمح للشجر أن يعيش ويثمر، لا نترك فرصة لزهر البرتقال أو غيره.

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

زهر البرتقال أو أبعد زهر البرتقال أو أبعد



GMT 23:29 2022 الإثنين ,12 أيلول / سبتمبر

نحو قانون متوازن للأسرة.. بيت الطاعة

GMT 23:27 2022 الإثنين ,12 أيلول / سبتمبر

نحن عشاق «الكراكيب»

GMT 23:25 2022 الإثنين ,12 أيلول / سبتمبر

التوت و«البنكنوت»

GMT 20:38 2022 الإثنين ,12 أيلول / سبتمبر

الصفقة مع ايران تأجلت... أو صارت مستحيلة

GMT 07:51 2021 السبت ,11 أيلول / سبتمبر

الملالي في أفغانستان: المخاطر والتحديات

إطلالات هند صبري مصدر إلهام للمرأة العصرية الأنيقة

القاهرة ـ مصر اليوم

GMT 09:22 2024 الخميس ,21 تشرين الثاني / نوفمبر

قرية بورميو الإيطالية المكان المثالي للرياضات الشتوية
  مصر اليوم - قرية بورميو الإيطالية المكان المثالي للرياضات الشتوية

GMT 09:31 2024 الخميس ,21 تشرين الثاني / نوفمبر

الزرع الصناعي يضيف قيمة لديكور المنزل دون عناية مستمرة
  مصر اليوم - الزرع الصناعي يضيف قيمة لديكور المنزل دون عناية مستمرة

GMT 08:11 2024 الخميس ,31 تشرين الأول / أكتوبر

وجهات سياحية مميزة توفر متعة التزلج في فصل الشتاء

GMT 16:32 2020 الجمعة ,18 كانون الأول / ديسمبر

والدة الفنان المصري عمر كمال تكشف موقفها من عمله

GMT 09:42 2020 الأحد ,06 كانون الأول / ديسمبر

تعرف على قائمة الإجازات الرسمية 2021 في مصر

GMT 02:51 2020 الجمعة ,27 تشرين الثاني / نوفمبر

إصابة لاعب الأهلي المصري محمد أشرف بكورونا

GMT 20:23 2020 الأربعاء ,28 تشرين الأول / أكتوبر

طوارئ في قرية في محافظة قنا بسبب كورونا

GMT 18:31 2020 الإثنين ,28 أيلول / سبتمبر

مورينيو يوضح إصابة سون هي الأولى فقط المزيد قادم
 
Egypt-today

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

egypttoday egypttoday egypttoday egypttoday
Egypttoday Egypttoday Egypttoday
Egypttoday
بناية النخيل - رأس النبع _ خلف السفارة الفرنسية _بيروت - لبنان
Egypt, Lebanan, Lebanon