بقلم : داليا شمس
يقفز بخفة رافعا ذيله، خفة الكائن التى لا تحتمل، وكأنه يتبع نغمات مقطوعة موسيقية لأنور أبراهم بعنوان «خطوات القط الأسود»، يعرف أنها كُتبت خصيصا قبل سنوات لرصد حركاته وكيف يثب كقط وينظر نحونا بعينيه الخضراوين، فى انتظار أن نحاول أن نعرف ما يلفت انتباهه. مر بعرض المحل وتوقف عند أفيش قديم معروف، كذلك الذى يباع منذ نهاية القرن التاسع عشر وصار رمزا لباريس السياحية، وكان بالأساس ملصقا دعائيا لكباريه «القط الأسود» الشهير حينها، مركز تجمع المثقفين؛ حيث يحتسون «الأفسنتين» شراب فيكتور هوجو المفضل، وهو كحول بنكهة الينسون مصنوع من زهور وأعشاب طبيعية.
وقف مشدوها كمن يحاول أن يتابع قصة هذا القط الموجود فى الصورة أعلى الحائط والذى يشبهه كثيرا. قط أسود مسكين وجده عام 1881 رودولف ساليس عند زيارته للموقع الذى سيؤسس فيه الكباريه الشهير بحى مونمارتر، فقرر أن يكون عنوانا واسما لمحله، مستبشرا بموائه. وقد كان بالفعل فاتحة خير بالنسبة له، إذ صار الكباريه من معالم العاصمة الفرنسية فى فترة وجيزة، يأتيه الكتاب والفنانون والملوك أحيانا من كل حدب وصوب، يشربون ويتناقشون ويستمتعون بالبيانو لأول مرة فى مثل هذه الحانات، وبعدها بقليل أنشأ رودولف ساليس مجلة أدبية بالاسم نفسه تصدر أسبوعيا كل سبت لتعبر عن روح نهاية القرن.
***
قضى ساليس على الصورة المريعة التى ارتبطت بالقط الأسود من خلال قصة إدجار آلان بو الغرائبية حول رجل يفرط فى الشراب ويؤذى قطه الأسود المحبوب لدى الجميع، ويرجع له هذا الأخير فى صورة مختلفة كل مرة، وفى النهاية يقتله ويقتل زوجته ويدفنهما معا خلف جدار بالبيت. قضى أيضا على الكثير من الخزعبلات التى التصقت بالقطط السوداء منذ القرون الوسطى، إذ اعتبرت طويلا نذير شؤم وارتبطت فى المخيلة الشعبية بالسحر والحظ السيئ والشياطين، فى أوروبا كما فى حضارات أخرى كثيرة. ولاتزال هذه الصورة تطارد القط الأسود الذى يمشى بخفة ودلع فى شوارع القاهرة حتى الآن، إذ يباغته من حين إلى حين صوت أحدهم وهو يردد فى وجهه ثلاث مرات: «أعوذ بالله منك إن كنت جانا»، وهو لا يستوعب كيف سيكون هذا حاله وهو من أصحاب الجان والصولجان! مجرد متسكع فى شوارع القاهرة وحواريها ينهى خناقة ليدخل فى صراع على قطعة لحم من شواء الحاتي؟
يقول لسان القط: «لله فى خلقه شئون».. وكأنه يعرف تاريخ أبناء جنسه أكثر من أى أحد آخر، وكأن حكاية القطط يجب أن ترويها هى، فتحدثنا عن كيف وصلت إلى حد القداسة أيام الفراعنة وصار لها معبد خاص فى تل بسطه بمحافظة الشرقية (أو «باستيت» وفق اسم معبودة على هيئة قطة بالمصرية القديمة). فَهم الفراعنة مبكرا أهمية القط ودوره فى حماية صوامع الحبوب والغلال من القوارض، شعب من المزارعين أراد أن يحافظ على مصدر رزقه وطعامه فكان احترامه الشديد للقطط التى تساعده فى ذلك، بل وتكفيه شر الأمراض والأوبئة مثل الطاعون. صار لكل معبد قططه الخاصة وصار هناك حراس للقطط، وعوقب بشدة كل من قتل قطا أو تعرض له بسوء، بل وصل الأمر فى عهد بطليموس الثانى عشر (حوالى عام 80 ق.م) أن دهست مركبة حربية رومانية قطا فما كان من العسكرى المصرى الذى شهد الحادث إلا أن أردى قائد المركبة قتيلا، مخالفا أوامر الفرعون بعدم التعرض له. ويذكر هيرودوت كذلك أنه عند موت قط فى أحد منازل مصر القديمة كان أفراد العائلة يحلقون حواجبهم حزنا على الفقيد حتى يتم تحنيط جثته خلال سبعين يوما، وقد عُثر بالفعل على آلاف المومياوات الخاصة بالقطط بالقرب من تل بسطه وغيرها من المواقع الأثرية.
***
يقول «باستيت» الحديث فى شوارع القاهرة متبخترا: حذارِ أن يغضب القط الوديع ويتحول إلى الإلهة سخمت أو اللبؤة المفترسة التى تجيد الانتقام من الأعداء، يبخ فى وجه قط آخر استفزه، ينظر إليه فى حسم فلا يسمح له بالاقتراب، نظراته وحركة أذنيه وذيله تشى بغضب ساطع، للقط سبعة أرواح وعمر الشقى بقى، لكن لماذا سبعة؟ ألا تقول أسطورة القرون الوسطى أن الساحرات قد يتنكرن فى هيئة قط لتسع مرات؟ ألم يكن هذا ما أثار حفيظة بعض رجال الدين عليهم وجعل الناس يحرقونهم أحياءً مع الساحرات؟ ألم يجعل منهم الفرو الأسود الفاحم تجسيدا للشيطان حتى أعيد لهم الاعتبار فى نهاية القرن السابع عشر وبداية الثامن عشر حين اعترف الناس بحاجتهم إليهم من أجل القضاء على الفئران والطاعون؟
يمشى القط الأسود القاهرى بخفة، تاركا وراءه حكايات وروايات، يعلق الطبق الذى وُضع أمامه فيتركه نظيفا تماما بفضل لسانه المُدرب، يعقد صداقات «شوارعية» لمنافع مشتركة، وهو يعرف فى قرارة نفسه أنه ينتمى لسلالة أعلى من هذا القط الأبيض ذى العين الزرقاء فهو يسمع أحسن منه بكثير، لم يشفع له جمال الفرو الأبيض فى مسألة الصمم الوراثى التى يعانى منها أشباهه، أما هو فيلتقط أى صوت بمنتهى الدقة ما يجعله صيادا ماهرا. يحترس من الغدر ولا يعطى الأمان بسهولة. يطأطئ رأسه حين تمتد يد لتداعبه مستغلا كل فرصة للعب، هو أيضا يحتاج إلى من يربت على كتفه ويسمح له بقليل من الدلال. قد يعطف عليه أحدهم فيأخذه معه فى صندوق صغير على متن طائرة ويرحل به بعيدا عن هذه البلاد، حلم الهجرة يطارده هو الآخر وليس فقط معشر البنى آدمين. صار يصعب عليه عبور بعض الشوارع التى اتسعت دون داعٍ، لم يعد العيش هنا هين رغم حرية التسكع حتى الآن.
يحلم بمصير أحد أجداده القدامى الذى حملته أميرة روسية من مصر إلى إيطاليا حيث تم نفيها بالسفارة المصرية بروما إبان الحرب العالمية الثانية، لسبب لم تحدده الحكاية بالضبط. كان من النوع المشبح فروه بالأسود، له أناقة ورشاقة القط المصرى، لذا حرصت الأميرة أن تزوجه بمن يليق بقط فرعونى، لنشر سلالته فى أوروبا ومن بعدها فى الولايات المتحدة الأمريكية خلال الخمسينيات. يغمض القط القاهرى الأسود عينيه الخضراوين ويستغرق فى الحلم.