بقلم : داليا شمس
رأسى يشبه أحيانا غرفة واسعة مليئة بأشكال وألوان من الساعات، ربما يرجع تاريخ بعضها إلى عشرينيات القرن الماضى، تلك الخشبية المعلقة على الحائط ولها بندول يدق بانتظام ليذكرك أنه مر كذا من الوقت. هناك أيضا ضمن مجموعة قياس الزمن القيمة التى تعج بها هذه الحجرة ساعات قديمة لها كتكوت صغير يخرج من صندوقه حين يأتى الموعد المحدد فيتحرك يمينا وشمالا ويعلن عن مرور ستين ثانية. وهكذا هى أحوال الدهر... تروس وساعات جدران وأخرى مكتبية أو جانبية وُضعت على المائدة، يشتد وقعها فتظن أن الوقت سيتوقف عند توقف دقات الساعة أو عند فقد عزيز، ثم تستمر ويستمر الكون فى الدوران دون أن يعلم مصيره. وحين تتصاعد وطأة الأحداث المقلقة تشعر أن الوقت يسير ببطء، يتسارع إيقاع الساعة الداخلية للمخ بسبب الضغط الشديد فيعطيك انطباعا أن الثوانى صارت أطول.
لم يعرف المخ مثل هذا الشىء من قبل، لم يشهد جائحة خلال حياتنا القصيرة، وهو لا يستطيع تقدير مدتها ولا يعرف إلى متى ستستمر ولا يملك عناصر للمقارنة، لذا فعلاقتنا بالوقت مضطربة وبها حاليا الكثير من التناقض وكأن الزمن يسير بنا بسرعتين: أخبار متلاحقة تأتينا من كل حدب وصوب وتقول لنا مرارا وتكرارا إن وجودنا فى الدنيا هش ومؤقت وتؤكد على ذلك بذكر عدد الوفيات اليومى حول العالم وفى إطارنا الضيق، وأعباء وواجبات أخرى لم نعتد القيام بها لكنها صارت من الضرورات مثل تطهير اليدين والمشتريات والعمل عن بعد ومتابعة دراسة الأبناء ومذاكرتهم أيضا عن بعد وتأمين الغذاء تحسبا لأى أزمات طارئة، إلى ما غير ذلك، فمن ناحية لا نرى الوقت يمر، ومن ناحية أخرى خلال فترات العزل الاختيارى نملك الكثير من الوقت لكى نفكر فى الوقت ونتأمله وهو يتسرب من بين أصابعنا.
***
حين نلزم بيوتنا خوفا من الكورونا تتغير عاداتنا اليومية وكأننا فى إجازة سنوية لكنها ليست كذلك، نرتبك وتضيع معالم الطريق. فجأة يتحدث الكثيرون من حولى عن أعمارهم وإحساسهم بالزمن خاصة السيدات. ازداد هوس بعضهن بظهور التجاعيد ودخول مرحلة سن اليأس، لم يكن هذا هو تفكيرهن قبل أشهر لكن صار ما صار وأصبح معظم كلامهن عن هبات الحرارة التى تصيبهن ليلا أو أسماء الأطباء الذين قد يساعدون فى تقليل أثر الزمن على الوجوه والأجساد، أما الرجال فقد حاول بعضهم التريض بانتظام ليبدو بمظهر أكثر شبابا، خاصة وأن وسائل الإعلام لم تفوت فرصة دون أن تقسمنا إلى شرائح عمرية مع تحديد من هم عرضة للإصابة بأمور خطيرة. فى مثل هذه الأحوال يميل البعض إلى اجترار الأفكار أو يعانى من اضطرابات بدنية نفسية، أما البعض الأكثر تصالحا مع الذات فيحاول قبول الواقع مع ممارسة الهوايات كالموسيقى والشعر أو الانغماس فى تعلم أشياء جديدة لم نجد الوقت من قبل لكى نكتشفها.
فهم هؤلاء أن الوقت لا يهرب منا، بل نحن من نرفض مجابهته ونهرب منه أحيانا. نمضى ساعات وساعات أمام الشاشات تصل بنا إلى درجة الإدمان، ننتهى من الكمبيوتر حتى نلتقط التليفون، ثم نشاهد فيلما بوصلة من الكمبيوتر على التليفزيون. عرفنا مثل هذه العزلة الاختيارية قبل عدة أشهر وما إن أوشكنا على تضميد الجراح حتى وجدنا أنفسنا مضطرين إلى التزامها مجددا، وإن كنا على غير استعداد لذلك.
***
نعيش أجواء تتأرجح بين أفلام وروايات الخيال العلمى وبين القصص الفلسفية، نتأمل ونحاول التركيز على اللحظة الآنية حين تطغى الأخيرة، ونسعى للسيطرة على الزمن المجنون فى الحالة الأولى، فقد كان هذا هو الهدف الأسمى دوما لأعمال الخيال العلمى. أبدع مؤلفو هذا النوع فى اختراع طرق درامية ليتحكم الإنسان فى الوقت، ينام ويحلم، يقع على ماكينة تجعله يزور الماضى أو المستقبل أو حتى يجمد اللحظات الحالية، يدوس على زر فتسير الأحداث بالعكس أو تظل تتكرر بشكل عجيب كما يحصل الآن وكأننا فى كابوس أقرح جفوننا لليالٍ وشهور. هذا لأن الإنسان لا يستوعب أن يتوقف الزمن أو ينتهى، فعلماء الطبيعة يقولون إن الكون الذى نعرفه قد يموت ويأتى آخر، لكن ماذا لو مات الزمن؟ لا نملك إجابة على السؤال، لذا نفضل تدبر الأمر ونسعى للسيطرة عليه حتى ولو بالخيال. نسخر منه أحيانا قبل أن يسخر منا، فالدعابة كما وصفها فرويد هى أفضل وسيلة للتغلب على تراجيديا الواقع، وحين يزداد هذا الواقع مرارة وتحتدم فوضاه تزداد رغبتنا فى أن نخرج لساننا للزمن ونضحك فى وجهه، غير مبالين بدقات وعقارب الساعة.