بقلم : داليا شمس
مصطفى، حسن، على بابا، فطومة، لوليتا.. تصدرت هذه الأسماء أغانى الفرانكو آراب التى اشتهرت فى منتصف خمسينيات القرن الماضى إلى منتصف الستينيات تقريبا، وأدخلت البهجة على نفوسنا بنغماتها الراقصة، فقد جمعت بين إيقاعات شرقية وغربية، وكانت كلماتها مزيجا من لغات مختلفة: عربية، فرنسية، إيطالية، إنجليزية،... وكالعادة لم يكن ظهور هذه النوعية من الغناء مصادفةً، بل ارتبط بإطارٍ سياسى وثقافى، فنحن نرقص دوما على إيقاعات الظرف السياسى.
لحن محمد فوزى ثلاث أغنيات تندرج تحت تصنيف الفرانكو آراب: «يا مصطفى يا مصطفى» و«فطومة ماشية فى الموسكى» و«على بابا»، كما لحن وغنى عبدالعزيز محمود «لوليتا» ومنير مراد «أكلك منين يا بطة» (Je te mange par où, où ya batta). استغرب البعض وقتها كيف يمكن لمحمد فوزى مثلا أن يلحن كلمات تقول «أنا بحبك يا مصطفى، سبع سنين فى العطارين، دلوقتى جينا شيه مكسيم، تعالى يا مصطفى يا ابن السرحان، جيب تعميرة عجمى ولف على الجيران وأما ييجى كيفه كيفه يشرب على كيفه»، وقد كتبها المهندس سعيد المصرى الذى تنسب إليه أيضا أغنية «فطومة». نجاح الأغنية الكبير عندما قُدمت من خلال فيلم سينمائى وغناها فى البداية شقيق الفنانة داليدا، الإيطالى برونو مورى المولود فى شبرا، ثم بوب عزام اللبنانى الذى ولد فى الإسكندرية، جعلنا نكتفى باعتبارها نتاجا لوجود العديد من الأجانب فى مصر وقتها وذيوع ثقافة كوزموبوليتانية، ومع مرور الزمن لم يعد يعرف الناس أسماء برونو مورى وبوب عزام وآخر يدعى جورج زلعوم اشتهر باسم كريم شكرى وكان أول من غنى «Take me back to Cairo» التى أعدنا اكتشافها فيما بعد من خلال سمير الإسكندرانى.
***
هاجر كل هؤلاء، ولم نتوقف نحن عند طبيعة المجتمع آنذاك وطبيعة ملحن مثل محمد فوزى يعشق المغامرة ومنفتح على كل ما يحدث فى العالم، لأن هذه النوعية من الغناء بدأت فى الولايات المتحدة الأمريكية فى الفترة نفسها تقريبا، وانتشرت حول العالم من خلال أفلام هوليود وغيرها من الوسائط. لم نعد نذكر تيار الـexotica، وكان الملحنان مارتن دنى وليس باكستر من أبرز نجومه فى الولايات المتحدة، وكيف كان التمهيد له من خلال الأدب الأمريكى فى نهاية القرن التاسع عشر وبداية العشرين عندما نشرت الكتب حب السفر والرحلات إلى الجزر البعيدة بين الناس، وتنامى هذا الاتجاه بعد الحرب العالمية مع رغبة الشعوب فى الهروب من الواقع وعوامل الإحباط التى تحاصرها. وهو ما جعل كتاب «كون تيكى» لعالم الأنثروبولوجيا النرويجى ثور هيردال يترجم إلى عدة لغات ويحقق مبيعات قياسية عام 1947، لتناوله رحلته الاستكشافية، على متن قارب بدائى مع مجموعة علماء آخرين، من أمريكا الجنوبية إلى بولينيزيا أو مجموعة جزر المحيط الهادى.
زاد الاهتمام بالثقافات القديمة التى انتقلت عبر البحر إلى سائر أنحاء العالم، وبدأ الولع بإيقاعات أمريكا اللاتينية والجزر وكذلك بآلات موسيقية مثل الكونجا والبونجو، ما تَوَجه النجاح المدوى لإسطوانة «مامبو» للمغنية البيروفية Yma Sumac عام 1954، وتلاه أيضا وصول جنود الولايات المتحدة الأمريكية إلى جزر الباسيفيك وضمهم لهاواى عام 1959 لتصبح الولاية الخمسين وتضيف نجمة إلى العلم الأمريكى. عندما رقص الناس المامبو والتشاتشا حول العالم من خلال أغنيات مثل «على بابا تويست» و«حبيبى روك»، ولحن فنانون مثل محمد فوزى أغنية «تشاشا شرقية» وهى «يا مصطفى يا مصطفى» كان ذلك ضمن إطار أوسع وأشمل من الكوزموبوليتانية المصرية، لكن تدخلت السياسة أيضا فى انتشار هذه الأغنية تحديدا حول العالم وتصدرها سباق أفضل أغنية فى فرنسا وإنجلترا عام 1960، لمدة تزيد على 14 أسبوعا.
***
رغم حب الناس لها تم منع تسجيلها على أسطوانة فى مصر لأسباب رقابية، كما روى نجيب محفوظ فى حديثه مع رجاء النقاش حول الفترة التى عمل فيها فى الرقابة على المصنفات الفنية، موضحا أن أحد الموظفين اعتبر أن «مصطفى» الذى تشير إليه الأغنية هو مصطفى النحاس باشا وأن المؤلف حين يقول «سبع سنين فى العطارين» فهو يقصد مرور سبع سنوات على قيام ثورة يوليو!
مع رحيل بوب عزام إلى باريس تقريبا فى الفترة نفسها، التقطها شركة تسجيلات فرنسية، وذاع صيت مهندس الإلكترونيات ابن الإسكندرية بشكل لافت عام 1960 بسبب «يا مصطفى يا مصطفى» وأغنيتين أخرتين هما «Fais moi du couscous chéri» (اطبخ لى كسكسى يا حبيبي) و«C’est écrit dans le ciel» (مكتوب فى السماء). وكانت هذه مفارقة سياسية أخرى، فالناس كانت تتمايل على الأنغام الشرقية لهذه الأعمال فى خضم الحرب على الجزائر! وظل الحال كذلك لمدة سنتين حتى بدأ نجم بوب عزام فى الخفوت، رغم اختراعه لما يسمى فى مجال التسجيلات الصوتية بغرفة الصدى، التى شكلت إضافة بارزة للمتخصصين. ارتحل بعدها بفترة إلى سويسرا حيث استقر وفتح ملهى ليلى وتوفى سنة 2004 بموناكو. كان هذا الهجين الموسيقى وخليط البشر واللغات والإيقاعات الذى مثله بوب عزام بأصوله اللبنانية ومولده فى الإسكندرية خلال العشرينيات معبرا عن ظرف سياسى وواقع ثقافى مختلف، أردت فقط التوقف عنده قليلا، فكل ما نسمعه أو نرقص عليه لا يأتى من فراغ.