بقلم : داليا شمس
شاب عريض الكتفين، نحيل الخصر، أشعث الشعر، يرتدى كنزة قطنية صفراء متسخة، وعلى وجهه علامات سخط لا تخطئها العين، رغم طرطور بابا نويل الأحمر الذى يضعه على رأسه. يقف وسط باعة طراطير وألبسة بابا نويل الذين يعرضون بضاعتهم فى الشوارع وإشارات المرور ومحيط الكنائس، ضمن أشياء أخرى من مستلزمات زينة رأس السنة التى يتم استيرادها من الصين أو تصنيعها فى درب البرابرة. جميعهم من عينة بابا نويل الأسمر الشقيان الذى يعانى من سوء التغذية والذى يضرب مثالا على قدرة هذه الشخصية الأسطورية على التأقلم مع الظروف والثقافات.
ذكرنى هذا المنظر بمهرجان بابا نويل الشعبى وهو يركب التوك توك، الذى غناه إسلام هتلر فى نهاية العام الماضى وبدأه بنغمة «جنكل بيل»، ثم قال فيه: «الناس لابسين طراطير، والبنات حاطين مونيكير، هابى نيويير وحاجات حلوة كتير، عيش الواقع مش الخيال عشان مش دايم الحال». ورأينا بالفعل كيف أن دوام الحال من المحال وأن بابا نويل ظهر هذا العام فى دول أوروبا مرتديا كمامة طبية أو تحدث للأطفال من القطب الشمالى عبر «الويب كاميرا» أو جلس داخل المراكز التجارية فى كابينة زجاجية، خوفا من العدوى. ورأينا أيضا قبل ذلك بنحو ثلاث سنوات كيف تمرد رسام ومؤلف كاميرونى، يلقب بالساحر كام، على شكل بابا نويل التقليدى وقام باختراع شخصية محلية تتولى مهمة توزيع الهدايا على الأطفال بدلا منه وأطلق عليها اسم «ماما تينجا تينجا». كان يستاء كثيرا من بابا نويل ذى البشرة السوداء واللحية البيضاء المستعارة العوجاء خلال طفولته، لذا أراد القول إن الاحتفال على النمط الأوروبى هو ضرب من ضروب الخنوع والاغتراب الثقافى.
***
على مر الزمان حاول الناس اقتباس شخصية بابا نويل مع بعض التحوير والتغيير لكى تتناسب مع طبيعة الشعوب، ولكن ظلت الصورة المهيمنة هى تلك التى فرضتها وروجت لها الشركات العالمية لأسباب تجارية بحتة، وقد نجحت بالفعل هذه الأخيرة فى جعل موسم أعياد الكريسماس ونهاية العام فترة نشاط لحركة البيع والشراء. وكان دوما بابا نويل قادرا على التأقلم مع الظروف والمستجدات، وهو شخصية ميثولوجية يرجع تاريخها لألف سنة قبل الميلاد من خلال الإله الإسكندنافى «أودين» الذى لم يكن يتلقى القرابين بل يوزع الهدايا شتاء على الأطفال لحسن سلوكهم، ويرسلها إلى الأرض بواسطة غُرابين. مع الوقت انتقلت عادة توزيع الهدايا السنوية على الأطفال إلى روما وإلى مدن أخرى حول العالم، مع تعديلات فى اسم الإله أو القديس وبعض التفصيلات، ربما لأن البشر كل البشر يحتاجون لهدايا من القَدر أو لمكافأة تأتيهم من الغيب، يحتاجون منذ الصغر لمن يربت على كتفهم ويعطيهم ثقة بأن الأمنيات والمعجزات ممكنة.
وفى العام 1821 كتب كليمنت كلارك مور، الشاعر والقس فى الكنيسة الأسقفية الأمريكية، قصيدة إلى أبنائه بعنوان «زيارة سان نيكولاس» يروى فيها حكاية بابا نويل التى نعرفها، بعدها بسنتين ذاعت القصة بعد أن نشرتها صحيفة بمدينة نيويورك وتمت ترجمتها إلى عدة لغات، أما شكل بابا نويل بملابسه الحمراء والبيضاء وجسمه الممتلئ فقد حددته شركة كوكاكولا. نعم كوكاكولا رمز العولمة.
***
تلقفت الشركة شخصية بابا نويل سنة 1931، ونجحت فى استغلالها للإعلان عن مشروباتها الغازية خلال فترة الركود فى فصل الشتاء، واستخدمت فى دعايتها اللونين اللذين يميزان شارتها وهما الأبيض والأحمر، وعهدت إلى أحد الرسامين بمهمة تصوير بابا نويل بهيئته الشهيرة وفى يده زجاجة كوكاكولا، ثم قامت شركات أخرى بدورها بتوظيفه دعائيا بهدف الترويج لبضاعتها. وعلى هذا النحو تحول بابا نويل إلى رمز للرأسمالية والاستهلاك وفيما بعد العولمة، فبمجرد أن يسمع الناس أغانى الكريسماس الشهيرة وتحيط بهم زينة عيد الميلاد يذهبون لشراء الهدايا إذا ما كانت لديهم أموال تسمح بذلك، أما من لا يملكون سوى قوت يومهم فقد يكتفون ببيع طراطير وألبسة بابا نويل فى إشارات المرور وقد ارتسم الغضب على ملامحهم.