توقيت القاهرة المحلي 05:53:29 آخر تحديث
  مصر اليوم -

شال سابين

  مصر اليوم -

شال سابين

بقلم - داليا شمس

المعرض المقام حاليا في قصر عائشة فهمي بالزمالك والذي يضم مجموعة متحفية نادرة من النسيج القبطي والإسلامي نقلني في لمح البصر إلى مدينة أنطيونوبوليس القديمة التي أمر ببنائها الإمبراطور الروماني هادريان، في القرن الثاني الميلادي، على الطراز الهيليني، لتخليد ذكرى صاحبه أنطينووس الذي غرق في النيل وهو يحاول إنقاذ حياته، ولا تزال أطلالها موجودة حتى الآن وتعرف حاليا باسم الشيخ عبادة بمحافظة المنيا أو بالقبطية قرية أنصنا، إحدى قرى مركز ملوي. وذلك لأن الكثير من النسيج القبطي المعروض هنا في مصر أو في أماكن كثيرة حول العالم تم اكتشافه في جبانة هذه المدينة التي ذاع صيتها ابتداءً من القرن الخامس الميلادي نظرا لعدد أديرتها وكنائسها وقديسيها. وبمراجعة تاريخ هذه الحفائر وملابساتها نفهم لماذا وصلتنا هذه المنسوجات في شكل قطع صغيرة (حشوات ومربعات وشرائح) دون أحجامها الطبيعية. ونفهم أيضا تعبير "مصر نسيج واحد"، بما أنها متتالية من الطرز والعصور تداخلت مع بعضها البعض فصار من الصعب ومن المفتعل محاولة الفصل بينها، والقطع المتحفية المعروضة هنا وهناك تجسد هذا المعنى برقي، فهناك اندماج بين الموروث الشعبي والوثني، وجماليات الفن القباطي التقليدي الذي يعتمد النسيج على النول دون طبع أو تطريز، والأساطير الفرعونية التي تم تطويعها لخدمة المسيحية، وهناك تواصل مع العصر الإسلامي والبيزنطي، جعل التأثيرات المتبادلة تظهر خاصة في بدايات الفتح العربي لمصر.

***

بدأت القصة عندما لفتت مدينة أنطيونوبوليس نظر رجل الصناعة الفرنسي إميل جيميه المهتم بانتشار ديانة إيزيس تحت حكم الرومان، من خلال ما ورد عنها في كتاب "وصف مصر" الشهير. وعندما زار الموقع في نهاية القرن التاسع عشر، ساورته الشكوك بشأن ما قد تخبئه هذه المدينة العتيقة في أحشائها، وبالتالي لجأ إلى مساعدة عالم المصريات ألبير جاييه الذي جاء إلى المنيا وشرع في العمل، فأزال الركام عن بقايا معبد نسب لرمسيس الثاني، وكشف عن جبانة ضخمة ضمت رفاة أربع حضارات متعاقبة امتدت إلى أكثر من خمسة قرون. واستمرت حفرياته قرابة أحد عشر عاما، احتاج خلالها إلى دعم مادي من أطراف متعددة، كان لكل منها نصيب من القطع الأثرية المكتشفة خاصة قطع النسيج القبطي، ما يفسر توزيعها على المتاحف والدول المختلفة، إذ تشاركوا جميعا في الغنائم بمن فيهم بعض الأعراب وأبناء البلد الذين كانوا يقومون بتقسيم المنسوجات القبطية إلى قطع صغيرة يسهل حملها وبيعها، لذا قليلا ما نجدها كاملة.

عثر ألبير جاييه على أكثر من ألفي مقبرة من عصور مختلفة، كان من أشهرها مقبرة سابين، النبيلة التي تنتمي إلى الطبقة الأرستقراطية الرومانية، والتي عرفت بسبب الشال الذي دفنت به والموجود حاليا أجزاء منه في متحف اللوفر بباريس ومتحف الفنون الجميلة بفرنسا ومتحف النسيج في مدينة ليون، أما الجزء الرابع من الشال الذي يصل إجمالي طوله لسبعة أمتار فقد تنقل من ملكية خاصة إلى أخرى. وتبعا للتقاليد السائدة وقتها كان يتم دفن الميت وقد ارتدى عدة طبقات من ثيابه المختلفة، يزداد عددها بحسب مكانته الاجتماعية، ثم يتم لف الجسد بعدها بكفن أبيض أو اثنين. وقد كانت روعة ثياب سابين هي ما جذب الانتباه إليها، وجعلها محط أنظار ودراسة المتخصصين منذ اكتشاف مقبرتها عام 1903، إذ ارتدت فستانا من الصوف الوردي، عليه حرملة حريرية، ومن فوقهما شال أحمر مزين بمربعات فريدة مليئة بالتفاصيل، يجسد كل مربع منها مشهدا مختلفا: محاكاة لقصص دينية، مناظر من الطبيعة ورحلات الصيد، إلى ما غير ذلك، وزينت رقبتها بعقد من اللؤلؤ وحجر الجمشت الكريم.

مزيج من الديانات والتأثيرات البيزنطية والوثنية والساسانية (من بلاد فارس) والفرعونية والمسيحية تداخلت بمنتهى التناغم لتخلد ذكرى هذه النبيلة التي عاشت في القرن الخامس الميلادي حين كان فن النسيج القباطي في أوجه، وحين تحول أغلبية السكان للديانة المسيحية التي صارت الأكثر انتشارا. لذا نلاحظ أن العديد من القطع المعروضة حاليا في معرض النسيج بقصر عائشة فهمي بالقاهرة تنتمي للقرن نفسه، فالفترة من القرن الرابع إلى منتصف القرن الخامس تعد مرحلة تطور الفن القبطي وتأثره بالزخارف الوثنية، والفترة الممتدة من بعدها إلى القرن الثامن تعتبر مرحلة ازدهار الزخارف المسيحية، أما من نهاية القرن الثامن إلى نهاية القرن الثاني عشر فقد تداخلت عناصر الفن القبطي والإسلامي.

***

نلمح من خلال قطع النسيج العيون الواسعة التي ترمقنا بعمق، والزخارف ذات الألوان الطبيعية: اللون الأصفر المشتق من الزعفران أو زهرة اللوتس، والأرجواني من نبتة الفوة، والأزرق من عشبة الوسمة، المعروفة بورق النيل... فاختلاف الألوان والأصول كان عنصر ثراء دائم، ويجب أن يظل هكذا، دون محاولات طمس متعمدة، تغير اسم مكان لتنفي عنه هويته أو تهمل تاريخه لمجرد ارتباطه بحضارة أو ديانة بعينها، فكل مربع من شال سابين يعكس مشهدا مختلفا، ومجموع المربعات الصغيرة الملونة مذهل في جماله.


نقلا عن الشروق القاهرية

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

شال سابين شال سابين



GMT 10:17 2024 الإثنين ,18 تشرين الثاني / نوفمبر

ممدوح عباس!

GMT 10:15 2024 الإثنين ,18 تشرين الثاني / نوفمبر

القديم والجديد؟!

GMT 08:33 2024 السبت ,02 تشرين الثاني / نوفمبر

فرنسا تتصالح مع نفسها في المغرب

GMT 03:37 2024 الأحد ,13 تشرين الأول / أكتوبر

حزب المحافظين البريطاني: «لليمين دُرْ»!

GMT 23:09 2024 الأحد ,06 تشرين الأول / أكتوبر

هل يمكن خلق الدولة في لبنان؟

اللون الأسود سيطر على إطلالات ياسمين صبري في عام 2024

القاهرة ـ مصر اليوم

GMT 09:59 2025 الإثنين ,06 كانون الثاني / يناير

النظام الغذائي الغني بالفواكه والخضراوات يحدّ من الاكتئاب
  مصر اليوم - النظام الغذائي الغني بالفواكه والخضراوات يحدّ من الاكتئاب

GMT 09:52 2025 الإثنين ,06 كانون الثاني / يناير

ميتا تطلق أدوات ذكاء اصطناعي مبتكرة على فيسبوك وإنستغرام
  مصر اليوم - ميتا تطلق أدوات ذكاء اصطناعي مبتكرة على فيسبوك وإنستغرام

GMT 10:25 2021 الأربعاء ,05 أيار / مايو

فساتين أنيقة بتصاميم مختلفة لربيع وصيف 2021

GMT 17:19 2021 الأربعاء ,14 إبريل / نيسان

طقس الأربعاء حار نهارًا ولطيف ليلًا في أسوان

GMT 04:30 2021 الثلاثاء ,30 آذار/ مارس

أفضل وجهات سفر لعشاق المغامرات

GMT 11:54 2021 الأحد ,07 آذار/ مارس

طريقة عمل مكرونة بصدور الدجاج

GMT 10:40 2021 الجمعة ,12 شباط / فبراير

محمد شريف يحتفل ببرونزية كأس العالم للأندية

GMT 01:06 2021 الأربعاء ,27 كانون الثاني / يناير

تلميذات يتخلصن من زميلتهن بالسم بسبب تفوقها الدراسي في مصر

GMT 21:22 2021 السبت ,16 كانون الثاني / يناير

مرور 17 عام على انضمام أبو تريكة للقلعة الحمراء

GMT 09:42 2020 الثلاثاء ,01 كانون الأول / ديسمبر

كرات اللحم المشوية

GMT 06:57 2020 الثلاثاء ,03 تشرين الثاني / نوفمبر

جماهير أرسنال تختار محمد النني ثاني أفضل لاعب ضد مان يونايتد

GMT 18:47 2020 الأحد ,01 تشرين الثاني / نوفمبر

تغيير اسم نادي مصر إلى "زد إف سي" بعد استحواذ ساويرس

GMT 07:26 2020 الأربعاء ,21 تشرين الأول / أكتوبر

سعر الدولار في مصر اليوم الأربعاء 21تشرين أول /أكتوبر 2020

GMT 21:31 2020 الإثنين ,12 تشرين الأول / أكتوبر

لعنة الغيابات تضرب بيراميدز قبل مواجهة الطلائع في الكأس

GMT 07:46 2020 الأحد ,11 تشرين الأول / أكتوبر

أسعار الأسماك في مصر اليوم الأحد 11 تشرين أول /أكتوبر 2020

GMT 21:43 2020 الجمعة ,09 تشرين الأول / أكتوبر

فنانة شابة تنتحر في ظروف غامضة

GMT 21:14 2020 الثلاثاء ,06 تشرين الأول / أكتوبر

مؤشرا البحرين يقفلان التعاملات على ارتفاع
 
Egypt-today

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

egypttoday egypttoday egypttoday egypttoday
Egypttoday Egypttoday Egypttoday
Egypttoday
بناية النخيل - رأس النبع _ خلف السفارة الفرنسية _بيروت - لبنان
Egypt, Lebanan, Lebanon