بقلم : داليا شمس
تمنيت لو كنا قادرين على كشف كذب أحدهم لأن أنفه تنمو مثل بينوكيو فى أفلام الرسوم المتحركة، كلما كانت مقولته ملفقة، وذلك على أساس أن الكذب يسبب القلق الذى يخفض درجة حرارة الأنف ويصيب بجفاف فى الحلق! الحيوانات يجيد بعضها المكر والخداع للتمويه والتحايل من أجل البقاء كأن يتصنع حيوان الموت لكى يجهز على الفريسة أو يغير لونه مثل الحرباء تماهيا مع البيئة المحيطة، إنما الإنسان الذى يميزه الكلام واستخدام العقل يلجأ أحيانا إلى الكذب لينجو بنفسه أو ليحقق هدفا بشكل ملتوٍ أو يجامل بعض الشيء أو يبرر تأخيرا طارئا، أو يلفت الأنظار عن خطأ أو يروج لبضاعة أو يهرب من اجتماع ممل أو حتى ليحدث وقيعة بين الناس، الأسباب تتعدد يوميا والوسيلة واحدة.
الطفل لا يعرف الكذب حتى سن السادسة أو السابعة، ثم يبدأ مشواره معه من سن الثامنة ويبرع فيه بمرور الوقت والخبرة والممارسة. وبالتدريج نفرق بين الكذب العادى أو المتعمد و«الميتومانيا» التى تصل إلى حد الولع والهوس بالكذب، بل وتصديقه والعيش فيه بالعديد من الأحوال، ربما مع كثرة ترديده، فكلمة «ميتومانيا» التى ظهرت فى اللغة مع بداية القرن العشرين لتصف حالة مرضية تتكون من «ميتو» (mythos) باللاتينية أى الأسطورة، و«مانيا» (mania) وتعنى الجنون أو الهوس، فالشخص المقصود «يختلق الأساطير». الإنسان المصاب بهذا الداء يوهم الآخرين بأشياء ملفقة، اختلقها لأسباب نفسية تخصه مثل ضعف الثقة بالنفس أو قلة النضوج العاطفى أو الرغبة فى الهروب من الواقع ورفضه أو تعويض شعور بالنقص أو خليط من هذا وذاك. يغطى على إحباطاته دون قصد أو وعى، بخلاف من يُحكم الروايات مع سبق الإصرار، وبالتالى السيناريو الكابوسى «للميتومان« أو المهووس بالكذب أن يتم فضحه، لذا قد يلجأ إلى مزيد من الكذب والهروب أو يقع فريسة للاكتئاب.
***
نعيش وسط هؤلاء، نكتشفهم أحيانا خاصة حين تكون حكاياتهم غير مترابطة وأقوالهم مشوشة ومرتبكة، ونصدقهم كثيرا وتنطلى علينا حيلهم مرات ومرات. يتوقف بعضنا مليا أمام ممارساتهم على جميع المستويات والأصعدة، فالكذب ينطبق على الخاص والعام، على شئون بعضها شخصى وبعضها سياسى أو اجتماعى، إلى ما غير ذلك. العالم والفيلسوف الإنجليزى، توماس هوبز، يرى مثلا أنه كلما انتشر الكذب والشك بين الناس فى مجتمع ما أدى ذلك إلى أن تسوده أجواء شبيهة بالحرب، فكما قال تشرشل «فى زمن الحرب يصبح الصدق شيئا ثمينا، لابد أن يحاط بسياج من الأكاذيب».
خلال الحروب شاهدنا كل أنواع الكذب والخديعة، أشهرها مؤخرا كانت الكذبة التى استخدمت لتبرير الحرب على العراق بادعاء امتلاكها لأسلحة دمار شامل. مراحل الحرب العالمية الأولى والثانية، وما بينهما، كانت أيضا من العصور الذهبية للكذب والتضليل، ومن بعدها اعتمدت الأنظمة السلطوية والشمولية العديد من وسائل خداع المجتمعات التى اتخذت تسميات مختلفة، من ديماجوجية إلى بروباجندا. غرقت الشعوب فى ضروب الكلام وتشويه الحقائق والتلاعب بالعقول. لجأت بعض الحكومات للسيطرة على وسائل الإعلام لكى يتم ذلك بشكل ممنهج ومبسط يمكنهم من الوصول إلى أغلبية الناس. أسس جوبلز، السياسى الألمانى المقرب من هتلر، لمدرسة فى أساليب الدعاية السياسية، وكان معروفا بمهاراته فى التحدث أمام الجمهور. اقتنع الكثيرون بمقولته الشهيرة واتبعوها: «الكذبة التى نرددها ألف مرة تتحول إلى حقيقة». أغفلوا أن عكس الكذب هو الصدق، وأن الحق أو الصواب عكسهما الباطل والخطأ والزور والبهتان، كلها أضداد الحقيقة.
***
الديكتاتوريات بنيت جميعها على الكذب، لكن الشيء المدهش هو قدرة الناخبين على مساندة قادة وحكام يستمتعون بالكذب وينتهى بهم الأمر أحيانا أن يصدقوه، ما جعلنا نحظى بالعديد من «دجالى ومشعوذى» العالم الحر. الناس لديهم درجة من التسامح مع الكذب السياسى، هناك تسويغ فلسفى ما يبرر هذه الممارسات، ربما باعتبار أن الكذب هو مِلح السياسة. تتأقلم الأذهان مع الكذب المنتشر، تستغيه أحيانا وتدمجه فى الواقع، وعلى هذا النحو تندرج العديد من الأكاذيب فى حياتنا اليومية بحكم العادة والتكرار، خاصة عندما تقع المجتمعات فريسةً للخوف والإحساس بعدم الأمان. يصبح من السهل إخضاعها، وحتى لو صارت هناك وسائل إعلام مختلفة تدعى الحياد، ومع ظهور شبكات التواصل الاجتماعى أصبحت لهذه الأخيرة أيضا كذباتها واختلاقاتها الخاصة، فنحن نكذب أكثر مما نضحك.