بقلم: داليا شمس
فاتت الذكرى، صارت وراءها.. لكن ذلك لم يمنع ارتباكها ونحن نقلب في الصور القديمة، حين سألت عن عازف البيانو الأنيق الذي جلست من حوله ضمن آخرين، أيام الدراسة، وقالت في عجالة إنه كان بارعا جدا، ولمعت عيناها هاربة، تتملص من الاعتراف بأمر حميم. علق صوت موسيقاه برأسها، وربما كادت تستحضر ملامحه، رغم مرور أكثر من نصف قرن.
العمر تأخر، وأنهكها التعب وطأطأة الظهر، لكن ظلت لمعة العيون لها بريق خاص، حتى لو ضعف النظر وقل الكلام. لا تريد أن تبدو رومانسية بلهاء أمام الأبناء والأحفاد، لكن ثمة شيء ما يلمحه من يريد أن يقرأ تعبيرات الوجه، خاصة العيون أصدق ما فيه. وأنا أحب قراءة الوجوه وترجمة لغة العيون حين تتألق لمعانا بسبب الحب أو الإعجاب أو الإطراء أو الحماسة أو الشغف. وأجيد الترجمة أيضا حين يتطاير الشرر والغيظ والغيرة والتحدي، ويعلو تلقائيا حاجب عن الآخر بقليل في بعض الأحيان، حتى لو حاول صاحب أو صاحبة العيون رسم ابتسامة مصطنعة على الشفايف، لكي يؤكد أنه لا يعبأ بالأمر وبمن حوله.
سر العيون يكمن في حركاتها وسكناتها وإشراقها أو العكس، وهو ما لا يمكن وصفه بسهولة، فيها يكون الذكاء والتلألأ والاتقاد والدهاء والحسد والجفاء، وفيها تكون السذاجة والسعادة والبلادة والرغبة، فهي سحر لا يستدل عليه بغير عواطف.
***
أتفهم المدراء الذين يصرون على اختيار موظفيهم ضمن أصحاب العيون اللامعة، بالإضافة إلى كفاءاتهم، فالعيون اللامعة دليل على شغف صاحبها، على قدرته على الدهشة والتساؤل والابتكار والمفاجأة والخروج عن المألوف، وبغير هذه الصفات لا تقدم ولا تعلم ولا تنمية، كما قالها اليونان قديما.
هناك سعادة في الإبداع والحب، وحين تخبو العيون والموهبة والحماسة ويختفي الشغف، تطفو على السطح العادات البالية والعشرة والتعود والروتين والملل. نكتب الأمر نفسه والصفات نفسها بأسماء مختلفة. نصبح أكثر تهكما ومرارة. صغر العمر أم كبر. لذا أتمنى ألا تكون لمعة العيون ضمن الأشياء التي يجملها الحنين لأنها مرت ولن تعد. أتمنى أن أكون محاطة بهؤلاء الذين اتخذوا قرارا بأن تكون حياتهم كما أرادوا، ويظلوا في حالة حب بما يفعلون وبمن يخالطون، فيحتفظوا بلمعة عيونهم أبد الدهر. يكونوا مثل بيتهوفن الذي قدم لأول مرة السيمفونية التاسعة، أطول أعماله التي استغرق تأليفها حوالي ثلاثين عاما، في فيينا عام 1824، واستغرقته المقطوعة فلم ينتبه لتصفيق الجمهور الحاد، بما أنه كان مصابا بالصمم. لفتت انتباهه السوبرانو على المسرح ليرى بعينيه حماسة الصالة ويلحظ أن الأوركسترا توقفت عن العزف.
***
كان يعوض السمع بالإحساس، ولم يفارقه الشغف حتى رحل بعدها بثلاث سنوات. تأثر بأبيات شيللر عن الفرح والحب والنشوى والسعادة، كما تأثر أينشتين بموسيقى موتسارت وباخ. كان أينشتين يعزف على الكمان أو البيانو ويظل يرتجل أعمالهما حتى تختمر الفكرة في رأسه ويجد ضالته فيصيح "وجدتها" وتلمع عيناه. يطلق لخياله العنان على أنغام الموسيقى، مدفوعا بشغف لا يخبو ولا تنطفئ جذوته، وذلك في حد ذاته قصيدة فرح. حلاوة لا علاقة لها بفعل التذكر، لكن بلمعة العين التي تظل متقدة والتي يفقدها البعض بالسقوط في واقعية الحياة.