بقلم : داليا شمس
تختلط ضوضاء الشارع مع الضوضاء الآتية من الشرفات المفتوحة، وزوجا يمامٍ يتسامران ويطيران حاملين بين منقاريهما أغصان أشجار صغيرة جافة. لم تتوقف محاولاتهما المستمرة في بناء عش لهما أعلى ماسورة المياه، خلف باب "البلكونة"، بعيدا عن أعين الرقباء والمتلصصين، وقد قاما بالفعل بتجميع كومة قش في مخبئهما قبل عدة أيام. لا أكل ولا أمل من مراقبتهما وأتطلع إلى المرحلة التي يصلان فيها إلى تبطين العش بمواد طرية الملمس من الشَعر والريش والحشائش أو إلى احتمال لجوئهما لخيوط العنكبوت لتثبيت دعائم منزلهما المؤقت. عملية هندسية تلقائية وغريزية مُحكَمة لا تخلو من رومانسية آسرة، ونحن في أشهُر الغزل والتكاثر وبناء الأعشاش لدى اليمام والتي تمتد من فبراير إلى نوفمبر في العام القادم. فهمت أننا ربما سنتجاور لفترة قد تطول، لأنهما سيرقدان على البيض بالتبادل ما بين 14 و18 يوما في كل مرة تبيض فيها الأنثى، وأن ذلك قد يتكرر ست مرات في السنة، إذا ما قررا الاحتفاظ بالعش نفسه، وبالتالي من الأحرى أن أتعلم المزيد عن الجيران الجدد حتى لا يزعج أحدنا الآخر.
***
أفكر مليا في أنماط التعايش بين الكائنات المختلفة وفي أوجه الشبه بينها وبين البشر. أرمق تحركات الحمام واليمام بصفة خاصة، لأنهم من الطيور التي تنتشر بيننا في المدن، وهم يتنقلون بين أطباق الدش وأسلاك الكهرباء وأسطح المنازل، ويتغذى بعضهم على فتات الخبز وبقايا الحبوب والأعشاب والثمار الصغيرة وبذور الأزهار. هي غالبا من سرقت حبة الرمان وهي ما تزال في مرحلة النمو، رغم أنني وضعت حبات الأرز في طبق على سور الشرفة كما علمتني وأنا صغيرة "سيدة العصافير"، تلك التي رأيتها دوما تستقبل الطير المتعب أو المصاب لكي يستريح في أمان على حافة نافذتها بعد أن قطع مسافات طويلة. يحط الحمام الزاجل مثلا على السور كأنما دخل مملكة سلام فيجد ما ينشد من الماء والحَب في آنية صغيرة، وهي تغني "قمرة يا قمرة يا أمورة، يا محني ديل العصفورة" وصوتها يتمايل كما في الإسطوانات القديمة وهي تؤدي أغنية عبد الحي أفندي حلمي بطريقة أكثر تحررا من هذا الأخير الذي اشتهر بقدرته على الارتجال وعدم التزامه بالشكل التقليدي للعمل الموسيقي، وكان أول من أقام حفلات عامة يحضرها الناس بمقابل مالي. لم أكن أعلم أن عبد الحي حلمي بدأ كمذهبجي في فرقة عبد الحمولي الذي ارتبطت سيرته هو الآخر بأغنية شهيرة عن العصافير كاد يسجن بسببها مدى الحياة، وهي "والنبي لاهشه يا العصفور وانكش له عشه يا العصفور".
غضب الخديوي اسماعيل عندما امتنعت ألمظ عن الغناء بأمر من زوجها عبد الحمولي، فحبسه حتى رجع عن قراره وعادت هي بعد وساطات لغناء دور الخديوي المفضل "والنبي لاهشه يا العصفور" حتى ماتت وهي في السادسة والثلاثين من عمرها، في حين توفي زوجها بعدها بخمس سنوات وهو في الخامسة والستين. قصة حب بين اثنين من "المغردين" ملأت الدنيا غناء وطربا، كما لو كنا أمام عصفورين بحثا طويلا عن بعضهما البعض وتنقلا بين الأغصان. مرح في الليل ومرح في النهار انتهى بموت.
***
أغاني العصافير كانت كثيرة في سنين الروقان، حين كان الوقت يسمح بمراقبة الطير في صمت لساعات ومقارنة سلوكها ببني آدم. يطارد أحدهم عصفورة أحلامه مثلا ويسعى معها لـتأسيس عش يبنيه هو في الغالب على أن تفرشه هي وفقا لذوقها، وهو ما يحدث حتى الآن في عالم الطيور، لكن توزيع الأدوار لم يعد بهذا الوضوح في حالة البشر. قواعد الحب لا تزال ثابتة بالنسبة لتسعين في المئة من أنواع الطيور التي تتزوج مرة واحدة مدى الحياة وأحيانا لمدة حول كامل فقط، أما من يشتهرون بتعدد الزوجات مثل الحسون والنمنمة فهم يشرعون في بناء أكثر من عش في وقت واحد، وتكون هذه وسيلة الذكور الأساسية إلى جانب الغناء في جذب الإناث، فإذا أعجبت العصفورة بالعش كسب ودها وأعطته إشارة بالموافقة. نسبة لا تتجاوز العشرة في المئة من الطيور تعرف الخيانة والتحرش، فهناك أنواع لا تتسم بالوفاء وأخرى يعرف عنها الأنانية والتطفل على أعشاش الآخرين مثل الوقواق، إذ ينتظر هذا الأخير أن يقوم ثنائي آخر بالبناء وتنتهز الأنثى غياب أصحاب البيت الأصليين فتدس بيضها خلسةً ليكبر أفراخها ويتغذوا مع الآخرين، دون تحمل مسؤولية العناية بالصغار وأعباء بناء العش، كالكثير من الطفيليين حولنا و"حرامية الأعشاش" الذين يزداد ضجري بهم.
تغرد الطيور صباحا لتعلن عن وجودها في منطقة معينة وعن بناء عش لها. تغرد بعبارات غزلية لا يفهمها سوى من يحسن الإنصات لأصواتها ونغماتها المتقطعة مثل "سيدة العصافير" التي كانت تعرف "لغاها"، كما تقول الأغنية الشهيرة عن اليمامة البيضاء التي طارت عند صاحبها. تضحك من القلب حين تتابع تفاصيل مطاردة غرامية، فقد كانت تملك خاصية فك شفرات الكائنات الأخرى بما لديها من صبر وشفافية.